فصل: غرس الشّجر في المسجد والزّرع فيه وحفر بئر فيه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


استخلاف المسبوق

10 - ذهب الفقهاء في الجملة إلى جواز استخلاف الإمام في الصّلاة‏,‏ وإلى جواز استخلاف المسبوق وذلك على التّفصيل المبيّن في مصطلح ‏(‏ استخلاف ف / 28 وما بعدها ‏)‏‏.‏

مُسْتأمِن

التّعريف

1 - المستأمن في اللغة بكسر الميم الثّانية اسم فاعل أي‏:‏ الطّالب للأمان‏,‏ ويصح بالفتح اسم مفعول والسّين والتّاء للصّيرورة‏,‏ أي صار مؤامناً‏,‏ يقال‏:‏ استأمنه‏:‏ طلب منه الأمان‏,‏ واستأمن إليه‏:‏ دخل في أمانه‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ المستأمن‏:‏ من يدخل إقليم غيره بأمان مسلماً كان أم حربياً‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الذّمّي‏:‏

2 - الذّمّي في اللغة‏:‏ المعاهد الّذي أعطي عهداً يأمن به على ماله وعرضه ودينه‏,‏ والذّمّي نسبة إلى الذّمّة‏,‏ بمعنى العهد‏.‏

والذّمّي في الاصطلاح هو المعاهد كل الكفّار لأنّه أومن على ماله ودمه ودينه بالجزية‏.‏ والصّلة بين المستأمن والذّمّيّ‏:‏ أنّ الأمان للمستأمن مؤقّت وللذّمّيّ مؤبّد‏.‏

ب - الحربي‏:‏

3 - الحربي منسوب إلى الحرب‏,‏ وهي المقاتلة والمنازلة‏,‏ ودار الحرب‏:‏ بلاد الأعداء‏,‏ وأهلها‏:‏ حربي وحربيون‏.‏

والصّلة بينهما التّباين‏.‏

ما يتعلّق بالمستأمن من أحكام

يتعلّق بالمستأمن أحكام منها‏:‏

أمان المستأم

أ - مشروعيّة الأمان والحكمة فيها‏:‏

4 - الأصل في مشروعيّة أمان المستأمن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ‏}‏‏,‏ وقوله عليه الصّلاة والسّلام‏:‏ « ذمّة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم »‏.‏

وأمّا الحكمة في مشروعيّته كما نصّ عليها النّووي قد تقتضي المصلحة الأمان لاستمالة الكافر إلى الإسلام أو إراحة الجيش أو ترتيب أمرهم أو للحاجة إلى دخول الكفّار أو لمكيدة وغيرها‏.‏

ب - حكم طلب الأمان أو إعطائه للمستأمن‏:‏

5 - إعطاء الأمان للمستأمن أو طلبه للأمان مباح وقد يكون حراماً أو مكروهاً‏.‏

وبالأمان يثبت للمستأمن الأمن عن القتل والسّبي وغنم المال‏,‏ فيحرم على المسلمين قتل رجالهم وسبي نسائهم وذراريّهم واغتنام أموالهم‏.‏

ج - من يحقّ له إعطاء الأمان للمستأمن‏:‏

الأمان إمّا أن يكون من الإمام أو نائبه أو من الأمير‏,‏ أو من آحاد المسلمين وعامّتهم‏.‏

أولاً - أمان الإمام أو نائبه‏:‏

6 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه يصح أمان الإمام أو نائبه لجميع الكفّار وآحادهم‏,‏ لأنّ ولايته عامّة على المسلمين‏,‏ فيجوز له أن يعطي الكفّار الأمان على أنفسهم وأموالهم لمصلحة اقتضته تعود على المسلمين‏,‏ لا لغير مصلحة‏.‏

ثانياً - أمان الأمير‏:‏

7 - نصّ الحنابلة على أنّه يصح أمان الأمير لأهل بلدة جعل بإزائهم‏,‏ أي‏:‏ ولي قتالهم‏,‏ لأنّ له الولاية عليهم فقط‏,‏ وأمّا في حقّ غيرهم فهو كآحاد الرّعيّة المسلمين‏,‏ لأنّ ولايته على قتال أولئك دون غيرهم‏.‏

ثالثاً - أمان آحاد الرّعيّة‏:‏

8 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة في الأصحّ والحنابلة إلى أنّه يصح أمان آحاد الرّعيّة بشروطه‏,‏ لواحد وعشرة‏,‏ وقافلة وحصن صغيرين عرفاً كمائة فأقلّ‏:‏ لأنّ عمر رضي اللّه تعالى عنه أجاز أمان العبد لأهل الحصن‏,‏ ولا يصح أمان أحد الرّعيّة لأهل بلدة كبيرة‏,‏ ولا رستاق‏,‏ ولا جمع كبير‏,‏ لأنّه يفضي إلى تعطيل الجهاد‏,‏ والافتيات على الإمام‏.‏

قال المالكيّة‏:‏ إن أمن غير الإمام إقليماً أي عدداً غير محصور‏,‏ أو أمن عدداً محصوراً بعد فتح البلد‏,‏ نظر الإمام في ذلك فإن كان صواباً أبقاه وإلّا ردّه‏.‏

وقال النّووي‏:‏ وضابطه‏:‏ أنّ لا ينسدّ باب الجهاد في تلك النّاحية فإذا تأتّى الجهاد بغير تعرض لمن أمن‏,‏ نفذ الأمان‏,‏ لأنّ الجهاد شعار الدّين‏,‏ وهو من أعظم مكاسب المسلمين‏.‏ وفي مقابل الأصحّ للشّافعيّة‏:‏ لا يجوز أمان واحد لأهل قرية وإن قلّ عدد من فيها‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى أنّه يصح الأمان من الواحد سواء أمن جماعةً كثيرةً أو قليلةً‏,‏ أو أهل مصر أو قرية‏,‏ وعبارة فتح القدير‏:‏ أو أهل حصن أو مدينة‏.‏

د - ما يترتّب على إعطاء الأمان‏:‏

9 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه إذا وقع الأمان من الإمام أو من غيره بشروطه‏,‏ وجب على المسلمين جميعاً الوفاء به‏,‏ فلا يجوز قتلهم‏,‏ ولا أسرهم‏,‏ ولا أخذ شيء من مالهم‏,‏ ولا التّعرض لهم‏,‏ لعصمتهم‏,‏ ولا أذيّتهم بغير وجهٍ شرعيٍّ‏.‏

وأمّا سراية حكم الأمان إلى غير المؤمّن من أهل ومال‏:‏ فقد نصّ الحنابلة‏,‏ والشّافعيّة في مقابل الأصحّ على أنّه إذا أمن من يصح أمانه سرى الأمان إلى من معه من أهل‏,‏ وما معه من مال‏,‏ إلّا أن يقول مؤمّنه‏:‏ أمّنتك وحدك ونحوه‏,‏ ممّا يقتضي تخصيصه بالأمان‏,‏ فيختص به‏.‏

هذا بالنّسبة لأهله وماله في دار الإسلام‏,‏ وأمّا من كان منهم في دار الحرب فلا يسري إليه الأمان جزماً عند الشّافعيّة‏.‏

وذهب الشّافعيّة في الأصحّ إلى أنّه لا يسري الأمان إلى من معه من أهل وما معه من مال إلّا بالشّرط‏,‏ لقصور اللّفظ عن العموم‏.‏

وزاد الشّافعيّة فقالوا‏:‏ المراد بما معه من ماله غير المحتاج إليه مدّة أمانه‏,‏ أمّا المحتاج إليه فيدخل ولو بلا شرطٍ‏,‏ ومن ذلك ما يستعمله في حرفته من الآلات‏,‏ ومركوبه إن لم يستعن عنه‏,‏ هذا إذا أمّنه غير الإمام‏,‏ فإن أمّنه الإمام دخل ما معه بلا شرطٍ‏,‏ ولا يدخل ما خلّفه بدار الحرب إلّا بشرط من الإمام‏,‏ أمّا إذا كان الأمان للحربيّ بدارهم‏:‏ فما كان من أهله وماله بدارهم دخلا ولو بلا شرطٍ إن أمّنه الإمام‏,‏ وإن أمّنه غيره لم يدخل أهله ولا ما لا يحتاج إليه من ماله إلّا بشرط‏,‏ ولا فرق في ذلك بين ما معه من ماله أو مال غيره‏.‏

هـ - ما ينعقد به الأمان‏:‏

10 - ذهب الفقهاء إلى أنّ الأمان ينعقد بكلّ لفظ يفيد الغرض‏,‏ وهو اللّفظ الدّال على الأمان نحو قول المقاتل مثلاً‏:‏ آمنتكم‏,‏ أو أنتم آمنون‏,‏ أو أعطيتكم الأمان‏,‏ وما يجري هذا المجرى‏.‏

وزاد الحصكفيّ من الحنفيّة‏:‏ وإن كان الكفّار لا يعرفونه‏,‏ بعد معرفة المسلمين كون ذلك اللّفظ أماناً بشرط سماع الكفّار ذلك من المسلمين‏,‏ فلا أمان لو كان بالبعد منهم‏.‏

كما ذهبوا إلى أنّه يجوز الأمان بأيّ لغة كان‏,‏ بالصّريح من اللّفظ كقوله‏:‏ أجرتك‏,‏ أو آمنتك‏,‏ أو أنت آمن وبالكناية‏:‏ كقوله‏:‏ أنت على ما تحب‏,‏ أو كن كيف شئت ونحوه‏.‏

وزاد بعض الشّافعيّة كالرّمليّ والشّربينيّ الخطيب اشتراط النّيّة في الكناية‏.‏

ويجوز الأمان بالكتابة لأثر فيه عن عمر رضي اللّه تعالى عنه‏,‏ وقال الشّربيني الخطيب‏:‏ ولا بدّ فيها من النّيّة لأنّها كناية‏.‏

كما يجوز بالرّسالة‏:‏ لأنّها أقوى من الكتابة‏,‏ قال الشّربيني‏:‏ سواء كان الرّسول مسلماً أم كافراً‏,‏ لأنّ بناء الباب على التّوسعة في حقن الدّم‏,‏ وكذلك بإشارة مفهمة ولو من ناطقٍ‏:‏ لقول عمر رضي اللّه تعالى عنه‏:‏ واللّه لو أنّ أحدكم أشار بأصبعه إلى السّماء إلى مشركٍ فنزل بأمانه فقتله لقتلته به‏,‏ ولأنّ الحاجة داعية إلى الإشارة لأنّ الغالب فيهم عدم فهم كلام المسلمين‏,‏ وكذا العكس‏.‏

فلو أشار مسلم لكافر فظنّ أنّه أمّنه‏,‏ فأنكر المسلم أنّه أمّنه بها‏,‏ فالقول قوله‏,‏ لأنّه أعلم بمراده‏,‏ ولكن لا يغتال بل يلحق بمأمنه‏,‏ وإن مات المشير قبل أن يبيّن الحال فلا أمان‏,‏ ولا اغتيال فيبلغ المأمن‏.‏

ويصح إيجاب الأمان منجّزاً كقوله‏:‏ أنت آمنً‏,‏ ومعلّقاً بشرط‏,‏ كقوله‏:‏ من فعل كذا فهو آمن‏,‏ لقول النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يوم فتح مكّة‏:‏ « من دخل دار أبي سفيان فهو آمن»‏.‏

وأمّا القبول فلا يشترط‏,‏ وهو ما صرّح به البلقيني من الشّافعيّة فقال‏:‏ إنّ الإمام الشّافعيّ لم يعتبر القبول وقال‏:‏ وهو ما عليه السّلف والخلف لأنّ بناء الباب على التّوسعة‏,‏ فيكفي السكوت‏,‏ ولكن يشترط مع السكوت ما يشعر بالقبول‏,‏ وهو الكف عن القتال كما صرّح به الماورديّ‏,‏ وتكفي إشارة مفهمة للقبول ولو من ناطق‏.‏

قال الشّربيني‏:‏ إنّ محلّ الخلاف في اعتبار القبول‏:‏ إذا لم يسبق منه استيجاب‏,‏ فإن سبق منه لم يحتج للقبول جزماً‏.‏

و - شرط إعطاء الأمان للمستأمن‏:‏

11 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ شرط الأمان انتفاء الضّرر‏,‏ ولو لم تظهر المصلحة‏.‏ وقال الحنفيّة‏:‏ يشترط في الأمان أن تكون فيه مصلحة ظاهرة للمسلمين‏.‏

والتّفصيل في ‏(‏ أمان ف / 6 ‏)‏‏.‏

ز - شروط المؤمِّن‏:‏

للمؤمِّن شروط على النّحو التّالي‏:‏

الشّرط الأوّل‏:‏ الإسلام‏:‏

12 - اتّفق الفقهاء على أنّه يشترط أن يكون الأمان من مسلم فلا يصح من كافر‏,‏ وزاد الكاساني‏:‏ وإن كان يقاتل مع المسلمين‏,‏ لأنّه متّهم في حقّ المسلمين فلا تؤمن خيانته‏,‏ ولأنّه إذا كان متّهماً فلا يدري أنّه بنى أمانه على مراعاة مصلحة المسلمين من التّفرق عن حال القوّة والضّعف أم لا‏,‏ فيقع الشّك في وجود شرط الصّحّة‏,‏ فلا يصح مع الشّكّ‏,‏ ونصوا على أنّه لا يجوز أمان غير المسلم ولو كان ذمّياً‏,‏ واستدلوا بقوله عليه الصّلاة والسّلام‏:‏ « ذمّة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم »‏,‏ ووجه الاستدلال أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم جعل الذّمّة للمسلمين‏,‏ فلا تحصل لغيرهم‏,‏ ولأنّ كفره يحمله على سوء الظّنّ‏,‏ ولأنّه متّهم على الإسلام وأهله‏,‏ فأشبه الحربيّ‏,‏ ولأنّه كافر فلا ولاية له على المسلمين‏.‏ وزاد الحنفيّة‏:‏ إلّا إذا أمره به مسلم - سواء كان الآمر أمير العسكر أو رجلاً من المسلمين - بأن قال المسلم للذّمّيّ‏:‏ آمنهم‏,‏ فقال الذّمّي‏:‏ قد آمنّتكم‏,‏ لأنّ أمان الذّمّيّ إنّما لا يصح لتهمة ميله إليهم‏,‏ وتزول التهمة إذا أمره به مسلم‏,‏ وكذلك إذا قال الذّمّي‏:‏ إنّ فلاناً المسلم قد آمنكم‏,‏ لأنّه صار مالكاً للأمان بهذا الأمر‏,‏ فيكون فيه بمنزلة مسلم آخر‏.‏

الشّرط الثّاني‏:‏ العقل‏:‏

13 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا يجوز أمان المجنون لأنّ العقل شرط أهليّة التّصرف‏,‏ ولأنّ كلامه غير معتبر فلا يثبت به حكم‏.‏

الشّرط الثّالث‏:‏ البلوغ‏:‏

14 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه لا يصح أمان الطّفل وكذلك الصّبي المراهق إذا كان لا يعقل الإسلام قياساً على المجنون‏.‏

وأمّا إن كان مميّزاً يعقل الإسلام‏,‏ ولكنّه كان محجوراً عن القتال‏,‏ فذهب جمهور الحنفيّة والحنابلة في وجهٍ إلى أنّه لا يصح أمانه ‏;‏ لأنّ من شرط صحّة الأمان أن يكون بالمسلمين ضعف‏,‏ وبالكفر قوّة‏,‏ وهذه حالة خفيّة ولا يوقف عليها إلّا بالتّأمل والنّظر‏,‏ ولا يوجد ذلك من الصّبيّ‏,‏ ولاشتغاله باللهو واللّعب‏,‏ ولأنه لا يملك العقود‏,‏ والأمان عقد‏,‏ ومن لا يملك أن يعقد في حقّ نفسه‏,‏ ففي حقّ غيره أولى‏,‏ ولأنّ قوله غير معتبر كطلاقه وعتاقه‏.‏

وقال الحنابلة في وجهٍ آخر ومحمّد‏:‏ يصح‏,‏ لأنّ أهليّة الأمان مبنيّة على أهليّة الإيمان‏,‏ والصّبي المميّز الّذي يعقل الإسلام من أهل الإيمان‏,‏ فيكون من أهل الأمان كالبالغ‏.‏

وإن كان مأذوناً في القتال فالأصح أنّه يصح بالاتّفاق بين الحنفيّة‏,‏ لأنّه تصرف دائر بين النّفع والضّرر‏,‏ فيملكه الصّبي المأذون‏.‏

وعند المالكيّة في الصّبيّ المميّز خلاف‏,‏ قيل‏:‏ يجوز ويمضي وقيل‏:‏ لا يجوز ابتداءً‏,‏ ويخيّر فيه الإمام إن وقع‏:‏ إن شاء أمضاه‏,‏ وإن شاء ردّه‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ لا يصح أمان الصّبيّ وفي الصّبيّ المميّز وجهٌ كتدبيره‏.‏

ومن زال عقله بنوم أو سكر أو إغماء‏,‏ فقد نصّ الحنابلة على أنّه في حكم الصّبيّ غير المميّز‏,‏ لأنّهم لا يعرفون المصلحة من غيرها‏,‏ ولأنّ كلامهم غير معتبر فلا يثبت به حكم‏.‏ الشّرط الرّابع‏:‏ الاختيار‏:‏

15 - نصّ جمهور الفقهاء على أنّه لا يصح الأمان من مكرهٍ لأنّه قول أكره عليه بغير حقٍّ‏,‏ فلم يصحّ كالإقرار‏.‏

الشّرط الخامس‏:‏ عدم الخوف من الكفرة‏:‏

16 - ذهب المالكيّة والحنابلة والشّافعيّة في مقابل الأصحّ إلى أنّه يصح أمان الأسير إذا عقده غير مكره‏,‏ لدخوله في عموم الخبر‏,‏ ولأنّه مسلم مكلّف مختار فأشبه غير الأسير‏,‏ قال ابن قدامة‏:‏ وكذلك يصح أمان الأجير‏,‏ والتّاجر في دار الحرب‏.‏

ويرى الشّافعيّة في الأصحّ عدم جواز أمان الأسير‏,‏ قال الشّربيني الخطيب‏:‏ محل الخلاف في الأسير المقيّد والمحبوس وإن لم يكن مكرهاً‏,‏ لأنّه مقهور بأيديهم لا يعرف وجه المصلحة‏,‏ ولأن وضع الأمان أن يأمن المؤمّن‏,‏ وليس الأسير آمناً‏,‏ وأمّا أسير الدّار‏,‏ وهو المطلق بدار الكفر الممنوع من الخروج منها فيصح أمانه‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يجوز أمان من كان مقهوراً عند الكفّار كالأسير والتّاجر فيهم‏,‏ ومن أسلم عندهم وهو فيهم‏,‏ لأنّهم مقهورون عندهم‏,‏ فلا يكونون من أهل البيان‏,‏ ولا يخافهم الكفّار‏,‏ والأمان يختص بمحلّ الخوف‏,‏ ولأنّهم يجبرون عليه‏,‏ فيعرى الأمان عن المصلحة‏,‏ ولأنّه لو انفتح هذا الباب لانسدّ باب الفتح‏,‏ لأنّهم كلّما اشتدّ الأمر عليهم‏,‏ لا يخلون عن أسير أو تاجر فيتخلّصون به‏,‏ وفيه ضرر ظاهر‏.‏

قال ابن عابدين‏:‏ نقل في البحر عن الذّخيرة أنّه لا يصح أمان الأسير في حقّ باقي المسلمين حتّى كان لهم أن يغيروا عليهم‏,‏ أمّا في حقّه هو فصحيح‏,‏ قال ابن عابدين‏:‏ والظّاهر أنّ التّاجر المستأمن كذلك‏.‏

ح - أمان العبد والمرأة والمريض‏:‏

اختلف الفقهاء في أمان العبد والمرأة والمريض على التّفصيل الآتي‏:‏

أولاً - العبد‏:‏

17 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يجوز أمان العبد‏,‏ واستدلوا بقوله عليه الصّلاة والسّلام‏:‏ « ذمّة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم »‏,‏ وفسّره محمّد بالعبد‏,‏ ولقول عمر بن الخطّاب رضي اللّه تعالى عنه‏:‏ العبد المسلم رجل من المسلمين ذمّته ذمّتهم ‏"‏ وفي رواية يجوز أمانه ‏"‏‏,‏ ولأنّه مسلم مكلّف‏,‏ فصحّ أمانه كالحرّ‏.‏

وزاد النّووي‏:‏ يصح أمان العبد المسلم وإن كان سيّده كافراً‏.‏

وفي قول للمالكيّة أنّه لا يجوز أمان العبد ابتداءً وإذا أمّن فيخيّر الإمام بين إمضائه وردّه‏.‏ وقال أبو حنيفة وأبو يوسف في رواية‏:‏ لا يصح أمان العبد المحجور عليه إلّا أن يأذن له مولاه في القتال‏,‏ لأنّه محجور عن القتال فلا يصح أمانه‏,‏ لأنّهم لا يخافونه فلم يلاق الأمان محلّه‏,‏ بخلاف المأذون له في القتال ‏;‏ لأنّ الخوف منه متحقّق‏,‏ ولأنّه مجلوب من دار الكفر‏,‏ فلا يؤمن أنّ ينظر لهم تقديم مصلحتهم‏.‏

ثانياً - المرأة‏:‏

18 - ذهب الفقهاء في الجملة إلى أنّ الذكورة ليست بشرط لصحّة الأمان‏,‏ فيصح أمان المرأة‏,‏ واستدلوا بقوله صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ «قد أجرنا من أجرت يا أمّ هانئٍ إنّما يجير على المسلمين أدناهم »ولما روي‏:‏ « أنّ زينب ابنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم رضي اللّه عنها وزوجة أبي العاص أمّنت زوجها أبا العاص بن الرّبيع وأجاز رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أمانها »‏,‏ ولأنّ المرأة لا تعجز عن الوقوف على حال القوّة والضّعف‏.‏

وفي قول المالكيّة أنّه لا يجوز أمان المرأة ابتداءً‏,‏ فإن أمّنت نظر الإمام في ذلك فإن شاء أبقاه وإن شاء ردَّه‏.‏

ونصّ النّووي على أنّه في جواز عقد المرأة استقلالاً وجهان‏.‏

وقال الشّربيني الخطيب‏:‏ أرجحهما الجواز كما جزم به الماورديّ‏.‏

ثالثاً المريض‏:‏

19 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى أنّه لا يشترط لصحّة الأمان السّلامة عن العمى والزّمانة والمرض‏,‏ فيصح أمان الأعمى والزّمن والمريض ما دام سليم العقل‏,‏ لأنّ الأصل في صحّة الأمان صدوره عن رأيٍ ونظر في الأحوال الخفيّة من الضّعف والقوّة‏,‏ وهذه العوارض لا تقدح فيه‏.‏

ط - الأمان على الشّرط‏:‏

20 - ذهب الفقهاء إلى أنّه إذا حاصر المسلمون حصناً فناداهم رجل وقال‏:‏ أمّنوني أفتح لكم الحصن‏,‏ جاز أنّ يعطوه أماناً‏,‏ لما روي أنّ زياد بن لبيد لمّا حاصر النّجير‏,‏ قال الأشعث بن قيس‏:‏ أعطوني الأمان لعشرة أفتح لكم الحصن ففعلوا‏,‏ فإن أشكل الّذي أعطي الأمان - وادّعاه كل واحد من أهل الحصن - فإن عرف صاحب الأمان عمل على ذلك وإن لم يعرف صاحب الأمان المؤمّن‏,‏ لم يجز قتل واحد منهم‏,‏ لأنّ كلّ واحد منهم يحتمل صدقه وقد اشتبه المباح بالمحرّم فيما لا ضرورة إليه فحرّم الكلّ‏,‏ كما لو اشتبهت ميّتة بمذكّاة ونحوها‏.‏

وإذا لم يوفّ الشّرط فلهم ضرب عنقه كما إذا قال الرّجل‏:‏ كفّ عنّي حتّى أدلك على كذا‏,‏ فبعث معه قوم ليدلّهم فامتنع من الدّلالة أو خانهم‏,‏ فالإمام إن شاء قتله وإن شاء جعله فيئاً‏,‏ لأنّ إعطاء الأمان له كان بشرط‏,‏ ولم يوجد‏,‏ ولأنّه كان مباح الدّم‏,‏ وعلّق حرمة دمه بالدّلالة وترك الخيانة‏,‏ فإن انعدم الشّرط‏,‏ بقي حل دمه على ما كان‏.‏

ي - مدّة الأمان‏:‏

21 - نصّ الحنفيّة وفي قول للشّافعيّة على أنّ مدّة الإقامة في دار الإسلام للمستأمن لا تبلغ سنةً‏,‏ وقال الحنفيّة‏:‏ يجوز التّوقيت ما دون السّنة كشهر أو شهرين‏,‏ لكن لا ينبغي أن يلحق المستأمن ضرر وعسر بتقصير المدّة جداً‏,‏ خصوصاً إذا كان له معاملات يحتاج في اقتضائها إلى مدّة أطول‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ يشترط أن لا تزيد مدّة الأمان على عشر سنين‏.‏

وعند الشّافعيّة يجب أن لا تزيد مدّة الأمان على أربعة أشهر‏,‏ فإن زاد عليها بطل في الزّائد‏.‏ وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏ أهل الذّمّة ف / 12 ‏)‏‏.‏

ك - ما ينتقض به الأمان‏:‏

ينتقض الأمان بأمور هي‏:‏

أوّلاً‏:‏ نقض الإمام‏:‏

22 - ذهب الفقهاء إلى أنّ الإمام لو رأى المصلحة في نبذ الأمان وكان بقاؤُه شراً له أنّ ينقضه‏,‏ لأنّ جواز الأمان - مع أنّه يتضمّن ترك القتال المفروض - للمصلحة‏,‏ فإذا صارت المصلحة في النّقض نقضه‏,‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ ‏}‏ لكن ينبغي أن يخبرهم بالنّقض وإعادتهم إلى ما كانوا عليه قبل الأمان‏,‏ ثمّ يقاتلهم لئلّا يكون من المسلمين غدر في العهد‏.‏

ثانياً - رد المستأمن للأمان‏:‏

23 - إذا جاء أهل الحصن بالأمان إلى الإمام فنقضه‏,‏ ففي هذه الحالة ينبغي للإمام أن يدعوهم إلى الإسلام‏,‏ فإن أبوا فإلى الذّمّة‏,‏ فإن أبوا ردّهم إلى مأمنهم‏,‏ ثمّ قاتلهم‏.‏

قال النّووي‏:‏ إنّ المستأمن إذا نبذ العهد‏,‏ وجب تبليغه المأمن‏,‏ ولا يتعرّض لما معه بلا خلاف‏.‏

ثالثاً - مضي مدّة الأمان‏:‏

24 - ينقضي الأمان بمضيّ الوقت إذا كان الأمان مؤقّتاً إلى وقت معلوم من غير الحاجة إلى النّقض‏.‏

رابعاً - عودة المستأمن إلى دار الحرب‏:‏

25 - نصّ جمهور الفقهاء على أنّ أمان المستأمن ينتقض في نفسه دون ماله بالعودة إلى الكفّار‏,‏ ولو إلى غير داره مستوطناً أو محارباً‏,‏ وأمّا إن عاد إلى دار الحرب لتجارة‏,‏ أو متنزّهاً أو لحاجة يقضيها‏,‏ ثمّ يعود إلى دار الإسلام فهو على أمانه‏.‏

خامساً - ارتكاب الخيانة‏:‏

26 - صرّح الحنابلة بأنّ من جاءنا بأمان‏,‏ فخاننا‏,‏ كان ناقضاً لأمانه لمنافاة الخيانة له‏,‏ ولأنّه لا يصلح في ديننا الغدر‏.‏

ل - ما يترتّب على رجوع المستأمن إلى دار الحرب‏:‏

27 - ذهب الحنابلة والشّافعيّة في الصّحيح - وهو ما يفهم من كلام الحنفيّة - إلى أنّ من دخل دار الحرب مستوطناً‏,‏ بقي الأمان في ماله‏,‏ وإن بطل في نفسه‏.‏

واستدلّ الحنابلة لذلك بقولهم‏:‏ لأنّه بدخوله دار الإسلام بأمان ثبت الأمان لماله الّذي كان معه‏,‏ فإذا بطل في نفسه بدخوله دار الحرب بقي في ماله‏,‏ لاختصاص المبطل بنفسه‏,‏ فيختص البطلان به‏.‏

وزاد الشّافعيّة كما نقله النّووي عن ابن الحدّاد‏:‏ للمستأمن أن يدخل دار الإسلام من غير تجديد أمان لتحصيل ذلك المال‏,‏ والدخول للمال يؤمّنه كالدخول لرسالة‏,‏ وسماع كلام اللّه تعالى‏,‏ ولكن ينبغي أن يعجّل في تحصيل غرضه‏,‏ وكذا لا يكرّر العود لأخذ قطعة من المال في كلّ مرّة‏,‏ فإن خالف تعرّض للقتل والأسر‏,‏ وقال غير ابن الحدّاد‏:‏ ليس له الدخول‏,‏ لأنّ ثبوت الأمان في المال لا يوجب ثبوته في النّفس‏.‏

28 - ويترتّب على عدم بطلان الأمان في ماله أنّه إن طلبه صاحبه بعث إليه‏.‏

وإن تصرّف فيه ببيع أو هبة أو غيرهما صحّ تصرفه‏.‏

وإن مات في دار الحرب انتقل إلى وارثه مع بقاء الأمان فيه كما نصّ عليه الحنابلة‏,‏ وهو الأظهر عند الشّافعيّة قياساً على سائر الحقوق من الرّهن والشفعة‏,‏ وبه قال الحنفيّة كما يأتي‏.‏

وقال الشّافعيّة في قول‏:‏ يبطل الأمان في الحال في هذه الحالة ويكون فيئاً لبيت المال‏,‏ لأنّه قد صار لوارثه‏,‏ ولم يعقد فيه أماناً‏,‏ فوجب أن يبطل فيه كسائر أمواله‏,‏ ولأنّ الأمان يثبت في المال تبعاً‏.‏

وإن لم يكن له وارث‏,‏ صار فيئاً كما قال الحنابلة والشّافعيّة‏.‏

وعند الشّافعيّة في بقاء الأمان في ماله قول ثالث‏:‏ وهو أنّه إذا لم يتعرّض للأمان في ماله حصل الأمان فيه تبعاً‏,‏ فيبطل فيه تبعاً‏,‏ وإن ذكره في الأمان لم يبطل‏.‏

29 - وأمّا الأولاد فقد نصّ الشّافعيّة على أنّه لا يسبي أولاده‏,‏ فإذا بلغوا وقبلوا الجزية تركوا‏,‏ وإلّا بلغوا المأمن‏.‏

30 - أمّا إن أسر‏,‏ بأن وجده مسلم فأسره‏,‏ أو غلب المسلمون على أهل دار الحرب‏,‏ فأخذوه أو قتلوه‏,‏ وكان له دين على مسلم أو ذمّيٍّ أو وديعة عندهما‏,‏ فقد نصّ الحنفيّة على أنّه يسقط دينه‏,‏ لأنّ إثبات اليد على الدّين بالمطالبة‏,‏ وقد سقطت‏,‏ ويد من عليه الدّين أسبق إليه من يد العامّة‏,‏ فيختص به فيسقط‏,‏ ولا طريق لجعله فيئاً لأنّه الّذي يؤخذ قهراً‏,‏ ولا يتصوّر ذلك في الدّين‏.‏

وكذلك الحكم لو أسلم إلى مسلم دراهم على شيء‏,‏ وما غصب منه وأجرة عين أجّرها‏,‏ وكل ذلك لسبق اليد‏.‏

31 - وأمّا وديعته عند مسلم أو ذمّيٍّ أو غيرهما‏,‏ وما عند شريكه ومضاربه وما في بيته في دار الإسلام فيصير فيئاً عند الحنفيّة ‏;‏ لأنّ الوديعة في يده تقديراً‏,‏ لأنّ يد المودع كيده فيصير فيئاً تبعاً لنفسه‏,‏ وكذلك ما عند شريكه ومضاربه وما في بيته‏.‏

32 - واختلف الحنفيّة في الرّهن‏:‏ فعند أبي يوسف للمرتهن بدينه‏,‏ وعند محمّد يباع ويستوفى دينه‏,‏ والزّيادة فيء للمسلمين‏,‏ قال ابن عابدين‏:‏ وينبغي ترجيح قول محمّد‏,‏ لأنّ ما زاد على قدر الدّين في حكم الوديعة‏.‏

33 - وإن مات أو قتل بلا غلبة عليه‏,‏ فماله من القرض والوديعة لورثته لأنّ نفسه لم تصر مغنومةً فكذا ماله‏,‏ كما لو ظهر عليه فهرب فماله له‏,‏ وكذا دينه حال حياته قبل الأسر‏.‏

م - ما يجوز للمستأمن حمله في الرجوع إلى دار الحرب‏:‏

34 - نصّ الحنفيّة على أنّه لا يمكّن المستأمن إذا أراد الرجوع إلى دار الحرب أن يحمل معه سلاحاً اشتراه من دار الإسلام‏,‏ لأنّهم يتقوّون به على المسلمين‏,‏ ولا يجوز إعطاء الأمان له ليكتسب به ما يكون قوّةً لأهل الحرب على قتال المسلمين‏,‏ وله أن يخرج بالّذي دخل به‏.‏

فإن باع سيفه واشترى به قوساً أو نشّاباً أو رمحاً مثلاً لا يمكّن منه‏,‏ وكذا لو اشترى سيفاً أحسن منه‏,‏ فإن كان مثل الأوّل أو دونه مكّن منه‏.‏

الدخول إلى دار الإسلام بغير أمان

يختلف حكم من دخل دار الإسلام بغير أمان باختلاف الأحوال على النّحو التّالي‏:‏

أ - ادّعاء كونه رسولاً‏:‏

35 - من دخل دار الإسلام وقال‏:‏ أنا رسول الملك إلى الخليفة‏,‏ لم يصدّق كما صرّح به الحنفيّة والحنابلة إلّا إذا أخرج كتاباً يشبه أن يكون كتاب ملكهم‏,‏ فهو آمن حتّى يبلّغ رسالته ويرجع‏,‏ لأنّ الرّسول آمن كما جرى به الرّسم جاهليّةً وإسلاماً‏,‏ ولأنّ القتال أو الصلح لا يتم إلّا بالرسل‏,‏ فلا بدّ من أمان الرّسول ليتوصّل إلى ما هو المقصود‏,‏ وإن لم يخرج كتاباً أو أخرج ولم يعلم أنّه كتاب ملكهم‏,‏ فهو وما معه فيء‏,‏ لأنّ الكتاب قد يفتعل‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ يصدّق سواء كان معه كتاب أم لا‏,‏ ولا يتعرّض له لاحتمال ما يدّعيه‏.‏ وذكر الروياني تفصيلاً في الرّسول فقال‏:‏ وما أشتهر أنّ الرّسول آمن هو في رسالة فيها مصلحة للمسلمين من هدنة وغيرها‏,‏ فإن كان رسولاً في وعيد وتهديد‏,‏ فلا أمان له‏,‏ ويتخيّر الإمام فيه بين الخصال الأربع كأسير‏,‏ أي‏:‏ القتل‏,‏ أو الاسترقاق‏,‏ أو المن عليه‏,‏ أو المفاداة بمال أو نفس‏,‏ إلّا أنّ المعتمد عند الشّافعيّة الأوّل‏.‏

ب - ادّعاء كونه تاجراً‏:‏

36 - لو دخل الحربي دارنا وقال‏:‏ إنّه تاجر وقال‏:‏ ظننت أنّكم لا تعرضون لتاجر‏,‏ والحال أنّه تاجر‏,‏ فنصّ المالكيّة على أنّه يقبل منه‏,‏ ويرده إلى مأمنه‏,‏ وكذلك الحكم إذا أخذ بأرضهم‏,‏ أو بين أرض العدوّ وأرضنا‏,‏ وادّعى التّجارة‏,‏ أو قال‏:‏ جئت أطلب الأمان‏,‏ حيث يرد لمأمنه‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ قصد التّجارة لا يفيد الأمان‏,‏ ولكن لو رأى الإمام مصلحةً في دخول التجّار‏,‏ فقال‏:‏ من دخل تاجراً فهو آمن‏,‏ جاز‏,‏ ومثل هذا الأمان لا يصح من الآحاد‏.‏

وكذلك لو قال‏:‏ ظننت أنّ قصد التّجارة يفيد الأمان فلا أثر لظنّه‏,‏ ولو سمع مسلماً يقول‏:‏ من دخل تاجراً فهو آمن‏,‏ فدخل وقال‏:‏ ظننت صحّته‏,‏ فالأصح أنّه يقبل قوله‏,‏ ولا يغتال‏.‏ وقال الحنابلة‏:‏ لو دخل وادّعى أنّه تاجر وكان معه متاع يبيعه‏,‏ قبل منه‏,‏ إن صدّقته عادةً‏,‏ كدخول تجارتهم إلينا ونحوه‏,‏ لأنّ ما ادّعاه ممكن‏,‏ فيكون شبهةً في درء القتل‏,‏ ولأنّه يتعذّر إقامة البيّنة على ذلك‏,‏ فلا يتعرّض له‏,‏ ولجريان العادة مجرى الشّرط‏,‏ وإن لم يوجد معه متاع‏,‏ وانتفت العادة‏,‏ لم يقبل قوله‏,‏ لأنّ التّجارة لا تحصل بغير مال‏,‏ ويجب بقاؤُه على ما كان عليه من عدم العصمة‏.‏

ج - ادّعاء كونه مؤمَّناً‏:‏

37 - من دخل دارنا وقال‏:‏ أمّنني مسلم‏,‏ فقد نصّ الحنفيّة والحنابلة في وجهٍ على أنّه لا يصدّق‏,‏ لأنّ حقّ المسلمين قد ثبت فيه حين تمكّنوا منه من غير أمان ظاهر له‏,‏ فلا يصدّق في إبطال حقّهم‏,‏ ولكن إن قال مسلم‏:‏ أنا أمّنته قبل قوله‏,‏ لأنّه يملك أن يؤمّنه‏,‏ فقبل قوله فيه كالحاكم إذا قال‏:‏ حكمت لفلان على فلان‏.‏

وذهب الشّافعيّة في الأصحّ والحنابلة في وجهٍ آخر إلى أنّه يصدّق بلا بيّنة‏,‏ تغليباً لحقن دمه‏,‏ فلا يتعرّض له‏,‏ لاحتمال كونه صادقاً فيما يدّعيه لأنّ الظّاهر أنّه لا يدخل بغير أمان‏,‏ وفي مقابل الأصحّ عند الشّافعيّة‏:‏ يطالب ببيّنة لإمكانها غالباً‏.‏

نكاح المسلم بالمستأمنة

38 - صرّح الحنفيّة بأنّ الحربيّة المستأمنة إذا تزوّجت مسلماً أو ذمّياً فقد توطّنت وصارت ذمّيّةً‏.‏

وتفصيل ذلك في ‏(‏ أهل الذّمّة ف / 13 ‏)‏‏.‏

ما يترتّب للمستأمنة على النّكاح من حقوقٍ

39 - ذهب الفقهاء إلى أنّ الزّوجة المستأمنة الكتابيّة كمسلمة في نفقة وقسم وطلاقٍ وغير ذلك إذا كان الزّوج مسلماً‏,‏ لاشتراكهما في الزّوجيّة‏.‏

والتّفصيل في مصطلحات‏:‏ ‏(‏ نكاح‏,‏ ومهر‏,‏ وقسم بين الزّوجات‏,‏ وكفر‏,‏ ونفقة‏,‏ وظهار‏,‏ ولعان‏,‏ وعدّة‏,‏ وحضانة‏,‏ وإحصان ‏)‏‏.‏

التّفريق بين المستأمن وزوجته لاختلاف الدّار

40 - ذهب الفقهاء إلى أنّ الحربيّ إذا خرج إلينا مستأمناً‏,‏ أو المسلم إذا دخل دار الحرب بأمان لم تقع الفرقة بينه وبين امرأته‏,‏ لأنّ اختلاف الدّار عبارة عن تباين الولايات وذلك لا يوجب ارتفاع النّكاح‏,‏ ولأنّ الحربيّ المستأمن من أهل دار الحرب‏,‏ وإنّما دخل دار الإسلام على سبيل العارية لقضاء بعض حاجاته لا للتّوطن‏.‏

والتّفصيل في‏:‏ ‏(‏ اختلاف الدّار ف / 5 ‏)‏‏.‏

التّوارث بين المستأمنين وبينهم وبين غيرهم

41 - ذهب الفقهاء إلى أنّه يثبت التّوارث بين مستأمنين في دارنا إن كانا من دار واحدة‏,‏ كما يثبت بين مستأمن في دارنا وحربيٍّ في دارهم‏,‏ لاتّحاد الدّار بينهما حكماً‏,‏ هذا في الجملة‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏ اختلاف الدّار ف / 3 ‏)‏‏.‏

المعاملات الماليّة للمستأمن

42 - نصّ الحنفيّة على أنّ المستأمن في دار الإسلام كالذّمّيّ إلّا في وجوب القصاص‏,‏ وعدم مؤاخذته بالعقوبات غير ما فيه حقّ العبد‏,‏ وفي أخذ العاشر منه العشر‏,‏ لأنّه التزم أحكام الإسلام أو ألزم بها من غير التزامه‏,‏ لإمكان إجراء الأحكام عليه ما دام في دار الإسلام‏,‏ فيلزمه ما يلزم الذّمّيّ في معاملاته مع الآخرين‏,‏ وعلى هذا فلا يحل أخذ ماله بعقد فاسد بخلاف المسلم المستأمن في دار الحرب فإنّ له أخذ مالهم برضاهم ولو بربا أو قمار لأنّ مالهم مباح لنا إلّا أنّ الغدر حرام‏,‏ وما أخذ برضاهم ليس غدراً من المستأمن بخلاف المستأمن منهم في دارنا‏,‏ لأنّ دارنا محل إجراء أحكام الشّريعة‏,‏ فلا يحل لمسلم في دارنا أن يعقد مع المستأمن إلّا ما يحل من العقود مع المسلمين ولا يجوز أن يؤخذ منه شيء لا يلزمه شرعاً وإن جرت به العادة‏.‏

قصاص المستأمن بقتل المسلم وعكسه

43 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه يقتل المستأمن بقتل المسلم‏,‏ وكذلك بقتل الذّمّيّ‏,‏ ولو مع اختلاف أديانهم‏,‏ لأنّ الكفر يجمعهم‏.‏

واختلفوا في قصاص المسلم والذّمّيّ بقتل المستأمن‏:‏

فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا يقتل المسلم بالمستأمن‏,‏ لأنّ الأعلى لا يقتل بالأدنى ولقوله صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ « لا يقتل مسلم بكافر »‏.‏

ويقتل الذّمّي والمستأمن بقتل المستأمن‏,‏ كما يقتل المستأمن بقتل المستأمن والذّمّيّ‏.‏

وذهب الحنفيّة في ظاهر الرّواية إلى أنّه لا قصاص على مسلم أو ذمّيٍّ بقتل مستأمن‏,‏ لأنّهم اشترطوا في القصاص أن يكون المقتول في حقّ القاتل محقون الدّم على التّأبيد‏,‏ والمستأمن عصمته مؤقّتة‏,‏ لأنّه مصون الدّم في حال أمانه فقط‏,‏ ولأنّه من دار أهل الحرب حكماً‏,‏ لقصده الانتقال إليها‏,‏ فلا يمكن المساواة بينه وبين من هو من أهل دارنا في العصمة‏,‏ والقصاص يعتمد المساواة‏,‏ ولكن عليه دية‏.‏

وروي عن أبي يوسف أنّه يقتل المسلم بالمستأمن‏,‏ واستدلّ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ‏}‏‏.‏

ونصّ الحنفيّة على أنّ المستأمن يقتل بقتل مستأمن آخر قياساً‏,‏ ووجه القياس المساواة بين المستأمنين من حيث حقن الدّم‏,‏ ولا يقتل استحساناً‏,‏ لقيام المبيح وهو عزمه على المحاربة بالعود‏.‏

قال الكاساني‏:‏ وروى ابن سماعة عن محمّد‏:‏ أنّه لا يقتل‏.‏

هذا في النّفس‏,‏ وأمّا الجناية على ما دون النّفس فاختلفت آراء الفقهاء في اشتراط التّكافؤ في الدّين وتفصيله ينظر في مصطلح ‏(‏ جناية على ما دون النّفس ف / 7 ‏)‏‏.‏

دية المستأمن

44 - لا خلاف بين الفقهاء في وجوب الدّية بقتل المستأمن‏,‏ واختلفوا في مقدارها على النّحو التالي‏:‏

فذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّ دية الكتابيّ المعاهد نصف دية الحرّ المسلم‏,‏ ودية المجوسيّ ثمانمائة درهم‏,‏ وكذلك دية جراح أهل الكتاب على النّصف من دية جراح المسلمين‏.‏

والصّحيح عند الحنفيّة أنّ المستأمن والمسلم في الدّية سواء‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ دية المستأمن الكتابيّ ثلث دية المسلم نفساً وغيرها‏,‏ ودية المستأمن الوثنيّ والمجوسيّ وعابد القمر والزّنديق ثلثا عشر دية المسلم هذا في الذكور‏.‏

أما المستأمنات الإناث فلا خلاف بين الفقهاء في أن ديتهنّ نصف دية الذكور منهم‏.‏ والتّفصيل في مصطلح ‏(‏ ديات ف / 32 ‏)‏‏.‏

وأمّا من لم تبلغه الدّعوة وكان مستأمنا‏,‏ فقال البهوتي من الحنابلة‏:‏ إن ديته دية أهل دينه‏,‏ لأنه محقون الدّم‏,‏ فإن لم يعرف دينه فكمجوسيّ‏,‏ لأنّه اليقين‏,‏ وما زاد عليه مشكوك فيه‏.‏

زنا المستأمن وزنا المسلم بالمستأمنة

45 - اختلف الفقهاء في وجوب الحدّ على المستأمن إذا زنى بالمسلمة أو الذّمّيّة على أقوال‏:‏

فذهب المالكيّة والحنابلة‏,‏ وأبو حنيفة ومحمّد‏,‏ وأبو يوسف في قول‏,‏ والشّافعيّة في المشهور إلى أنه لا يحد المستأمن إذا زنى‏.‏

وأضاف المالكيّة‏:‏ إذا كانت المسلمة طائعةً فإنه يعاقب عقوبةً شديدةً وتحد المسلمة وإن استكره المسلمة فإنه يقتل لنقضه العهد‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ لا يحد لأنه يجب أن يقتل لنقض العهد‏,‏ ولا يجب مع القتل حد سواه‏.‏

وقال الشّافعيّة في وجهٍ آخر‏,‏ وأبو يوسف في قول‏:‏ يقام عليه الحد‏.‏

وأمّا إذا زنى المسلم بالمستأمنة فقد نص جمهور الحنفيّة على أنه يحد المسلم دون المستأمنة لأن تعذر إقامة الحدّ على المستأمنة ليس للشبهة فلا يمنع إقامته على الرّجل‏,‏ وذهب أبو يوسف إلى أنه تحد المستأمنة أيضا‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏ زنا ف / 28 ‏)‏‏.‏

قذف المستأمن للمسلم

46 - لو دخل حربي دارنا بأمان فقذف مسلماً لم يحد في قول أبي حنيفة الأوّل‏,‏ وذهب الصاحبان أبو يوسف ومحمّد وهو قول آخر لأبي حنيفة إلى أنه يحد‏.‏

والتّفصيل في ‏(‏ قذف ف / 15 ‏)‏‏.‏

سرقة المستأمن مال المسلم وعكسه

47 - ذهب الفقهاء إلى أنه يشترط لإقامة حدّ السّرقة توافر شروطٍ منها‏:‏ كون السّارق ملتزما أحكام الإسلام‏.‏

وعلى هذا فإن سرق المستأمن من مستأمن آخر مالا لا يقام عليه الحد لعدم التزام أيٍّ منهما أحكام الإسلام‏,‏ وأمّا إن سرق من مسلم أو ذمّيٍّ ففي إقامة الحدّ عليه أقوال مختلفة ينظر في مصطلح ‏(‏ سرقة ف / 12 ‏)‏‏.‏

فإن سرق المسلم مال المستأمن فلا يحد عند الحنفيّة - عدا زفر - والشّافعيّة‏,‏ لأن في ماله شبهة الإباحة‏.‏

وذهب المالكيّة والحنابلة وزفر من الحنفيّة إلى أنه يقام عليه الحد لأن مال المستأمن معصوم‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏ سرقة ف / 25 ‏)‏‏.‏

النّظر في قضايا المستأمنين

48 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه لو ترافع إلينا مسلم ومستأمن برضاهما‏,‏ أو رضا أحدهما في نكاح أو غيره وجب الحكم بينهما بشرعنا‏,‏ طالباً كان المسلم أو مطلوباً‏,‏ واستدلّ لذلك الشّافعيّة والحنابلة بقولهم‏:‏ لأنّه يجب رفع الظلم عن المسلم‏,‏ والمسلم لا يمكن رفعه إلى حاكم أهل الذّمّة‏,‏ ولا يمكن تركهما متنازعين‏,‏ فرددنا من مع المسلم إلى حاكم المسلمين لأنّ الإسلام يعلو ولا يعلى عليه‏,‏ ولأنّ في ترك الإجابة إليه تضييعاً للحقّ‏.‏ واختلفوا فيما إذا كان طرفا الدّعوى غير مسلمين فذهب المالكيّة والحنابلة‏,‏ والشّافعيّة إلى أنّه إن تحاكم إلينا مستأمنان‏,‏ أو استعدى بعضهم على بعض خيّر الحاكم بين الحكم وتركه‏,‏ واستدلوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ‏}‏‏.‏

وقال مالك‏:‏ وترك ذلك أحب إلى‏,‏ وقيّده الشّافعيّة بأن تتّفق ملّتاهما كنصرانيّين مثلاً‏,‏ ويشترط عند الحنابلة اتّفاقهما‏,‏ فإن أبى أحدهما‏,‏ لم يحكم لعدم التزامهما حكمنا‏,‏ وروي التّخيير عن النّخعيّ‏,‏ والشّعبيّ والحسن وإبراهيم‏.‏

وإذا حكم فلا يحكم إلّا بحكم الإسلام‏,‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ‏}‏‏.‏ وإن لم يتحاكموا إلينا ليس للحاكم أن يتّبع شيئاً من أمورهم ولا يدعوهم إلى حكمنا‏,‏ لظاهر الآية‏:‏ ‏{‏ فَإِن جَآؤُوكَ ‏}‏‏.‏

وذهب الحنفيّة والشّافعيّة في قول إلى أنّ على الحاكم أن يحكم بينهم‏,‏ ولا يشترط ترافع الخصمين‏,‏ وبه قال ابن عبّاس رضي الله عنه‏,‏ وعطاء الخراسانيّ‏,‏ وعكرمة ومجاهد‏,‏ والزهري‏.‏

غير أنّ أبا حنيفة قال في نكاح المحارم والجمع بين خمس نسوة والأختين‏:‏ يشترط مجيئهم للحكم عليهم‏,‏ فإذا جاء أحدهما دون الآخر‏,‏ لم يوجد الشّرط وهو مجيئهم‏,‏ فلا يحكم بينهم‏.‏ وقال محمّد‏:‏ لا يشترط ترافع الخصمين‏,‏ بل يكفي لوجوب الحكم بينهما أن يرفع أحدهما الدّعوى إلى القاضي المسلم‏,‏ لأنّه لمّا رفع أحدهما الدّعوى‏,‏ فقد رضي بحكم الإسلام‏,‏ فيلزم إجراء حكم الإسلام في حقّه‏,‏ فيتعدّى إلى الآخر كما إذا أسلّم أحدهما‏.‏

وقال أبو يوسف‏:‏ لا يشترط التّرافع في الأنكحة الفاسدة أصلاً‏,‏ ويفرّق الحاكم بينهما إذا علم ذلك‏,‏ سواء ترافعا أو لم يترافعا‏,‏ أو رفع أحدهما دون الآخر‏,‏ لقوله تعالى ‏{‏ وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ ‏}‏‏,‏ ووجه الاستدلال أنّ الأمر مطلق عن شرط المرافعة‏.‏

شهادة المسلم على المستأمن وعكسه

49 - لا خلاف بين الفقهاء في جواز شهادة المسلم على غير المسلم‏,‏ سواء المستأمن وغيره‏,‏ لما روي عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال‏:‏ « لا تجوز شهادة ملّة على ملّة إلّا أمّتي تجوز شهادتهم على من سواهم »‏,‏ ولأنّ اللّه تعالى أثبت للمؤمنين شهادةً على النّاس بقوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏ لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ‏}‏‏,‏ ولمّا قبلت شهادة المسلم على المسلم‏,‏ فعلى الكافر أولى‏.‏

كما أنّه لا خلاف بين الفقهاء في عدم جواز شهادة الكافر على المسلم‏.‏

وينظر في ذلك مصطلح ‏(‏ شهادة ف / 20 ‏)‏‏.‏

شهادة الكفّار بعضهم على بعض

50 - اختلف الفقهاء في جواز شهادة الكفّار بعضهم على بعض فقال الجمهور بعدم الجواز‏.‏ وذهب الحنفيّة إلى الجواز‏,‏ وذلك على التّفصيل الآتي‏:‏

أ - شهادة الذّمّيّ على المسلمين‏:‏

51 - الأصل عند الحنفيّة أنّ حكم المستأمن مع الذّمّيّ في الشّهادة كحكم الذّمّيّ مع المسلم‏,‏ وعليه فتقبل شهادة الذّمّيّ على المستأمن‏,‏ لأنّ الذّمّيّ أعلى حالاً من المستأمن‏,‏ لأنّه قَبِل خلف الإسلام وهو الجزية‏,‏ فهو أقرب إلى الإسلام منه‏,‏ ولأنّ الذّمّيّ بعقد الذّمّة صار كالمسلم في قبول شهادته على المستأمن‏.‏

ب - شهادة المستأمن على الذّمّيّ‏:‏

52 - بناءً على الأصل المذكور لا تقبل شهادة المستأمن على الذّمّيّ‏,‏ ولأنّه لا ولاية له عليه‏,‏ لأنّ الذّمّيّ من أهل دارنا بخلاف المستأمن‏,‏ لأنّه ليس من دار الإسلام حقيقةً‏,‏ وإنّه فيها صورةً‏,‏ فكان الذّمّي أعلى حالاً من المستأمن‏.‏

ج - شهادة المستأمن على مستأمن آخر‏:‏

53 - تقبل شهادة المستأمنين بعضهم على بعض إذا كانوا من أهل دار واحدة‏,‏ وأمّا إن كانوا من دارين مختلفين فلا تقبل‏.‏

إسلام المستأمن في دارنا‏:‏

54 - نصّ الحنفيّة على أنّه إذا دخل الحربي دارنا بأمان‏,‏ وله امرأة في دار الحرب وأولاد صغار وكبار‏,‏ ومال أودع بعضه ذمّياً‏,‏ وبعضه مسلماً وبعضه حربياً‏,‏ فأسلم في دارنا‏,‏ ثمّ ظهر على دار الحرب فهو فيء‏.‏

أما المرأة والأولاد الكبار فلكونهم حربيّين كباراً‏,‏ وليسوا بأتباع للّذي خرج‏,‏ وكذلك ما في بطن المرأة لو كانت حاملاً لأنّه جزؤُها‏.‏

وأمّا الأولاد الصّغار‏,‏ فلأنّ الصّغير إنّما يصير مسلماً تبعاً لإسلام أبيه إذا كان في يده‏,‏ وتحت ولايته‏,‏ ولا يتحقّق ذلك مع تباين الدّارين‏,‏ وأمّا أمواله فلأنّها لا تصير محرزةً لإحراز نفسه بالإسلام لاختلاف الدّارين‏,‏ فيبقى الكل فيئاً وغنيمةً‏.‏

وأمّا لو دخل مع امرأته ومعهما أولاد صغار‏,‏ فأسلم أحدهما‏,‏ أو صار ذمّياً‏,‏ فالصّغار تبع له‏,‏ بخلاف الكبار ولو إناثاً‏,‏ لانتهاء التّبعيّة بالبلوغ عن عقل‏.‏

ولو أسلّم وله أولاد صغار في دارهم لم يتبعوه إلّا إذا خرجوا إلى دارنا قبل موت أبيهم‏.‏

موت المستأمن في دارنا

55 - لو مات المستأمن في دارنا وله ورثة في بلاده‏,‏ ومال في دارنا‏,‏ فاختلف الفقهاء في تركته على النّحو التّالي‏:‏

نصّ الحنفيّة على أنّه ليس على الإمام إرسال مال المستأمن المتوفّى إلى ورثته إلى دار الحرب‏,‏ بل يسلّمه إليهم إذا جاءوا إلى دار الإسلام‏,‏ وأقاموا البيّنة على أنّهم ورثته ‏;‏ لأنّ حكم الأمان باقٍ في ماله‏,‏ فيرد على ورثته من بعده‏,‏ قالوا‏:‏ وتقبل بيّنة أهل الذّمّة هنا استحساناً‏,‏ لأنّ أنسابهم في دار الحرب لا يعرفها المسلمون‏,‏ فصار كشهادة النّساء فيما لا يطّلع عليه الرّجال‏,‏ ولا يقبل كتاب ملكهم ولو ثبت أنّه كتابه‏,‏ لأنّ شهادته وحده لا تقبل‏,‏ فكتابته بالأولى‏.‏

وذهب المالكيّة كما قال الدّردير إلى أنّه إن مات المؤمَّن عندنا فماله لوارثه إن كان معه وارثه عندنا - دخل على التّجهيز أم لا - وإلّا يكن معه وارثه أرسل المال لوارثه بأرضهم إن دخل عندنا على التّجهيز لقضاء مصالحه من تجارة أو غيرها‏,‏ لا على الإقامة عندنا‏,‏ ولم تطل إقامته عندنا‏,‏ وإلّا بأن دخل على الإقامة أو على التّجهيز‏,‏ ولكن طالت إقامته عندنا ففيء محله بيت مال المسلمين‏.‏

قال الصّاوي‏:‏ أشار المصنّف‏,‏ ‏"‏ الدّردير ‏"‏ إلى الحالة الأولى بقوله‏:‏ وإن مات عندنا فماله لوارثه‏.‏‏.‏ إلخ‏,‏ ولم يستوف الأحوال الأربعة‏,‏ ونحن نبيّنها فنقول‏:‏ أما الحالة الثّانية‏:‏ وهي ما إذا مات في بلده وكان له عندنا نحو وديعة‏,‏ فإنّها ترسل لوارثه‏,‏ وأمّا الحالة الثّالثة‏:‏ وهي أسره وقتله‏,‏ فماله لمن أسره وقتله حيث حارب فأسره ثمّ قتل‏,‏ وأمّا الحالة الرّابعة‏:‏ وهي ما إذا قتل في معركة بينه وبين المسلمين من غير أسر‏,‏ في ماله قولان‏,‏ قيل‏:‏ يرسل لوارثه‏,‏ وقيل‏:‏ فيء‏,‏ ومحلهما إذا دخل على التّجهيز‏,‏ أو كانت العادة ذلك ولم تطل إقامته‏,‏ فإن طالت إقامته وقتل في معركة بينه وبين المسلمين كان ماله ولو وديعةً فيئاً قولاً واحداً‏.‏

وعند الشّافعيّة لو مات المستأمن في دار الإسلام فالمذهب القطع بردّ المال إلى وارثه‏,‏ لأنّه مات‏,‏ والأمان باقٍ في نفسه فكذا في ماله‏,‏ وفي قول عندهم‏:‏ يكون فيئاً‏.‏

قالوا‏:‏ وفي حكمه لو خرج المستأمن إلى دار الحرب غير ناقض للعهد‏,‏ بل لرسالة أو تجارة ومات هناك‏,‏ فهو كموته في دار الإسلام‏.‏

وعند الحنابلة يبعث مال المستأمن إلى ملكهم‏,‏ يقول ابن قدامة‏:‏ وقد نصّ أحمد في رواية الأثرم فيمن دخل إلينا بأمان‏,‏ فقتل أنّه يبعث بديته إلى ملكهم حتّى يدفعها إلى الورثة‏.‏

أخذ العشر من المستأمن

56 - ذهب الفقهاء في الجملة إلى أنّ المستأمن إذا دخل دار الإسلام بتجارة يؤخذ منه عشر تجارته أو أكثر أو أقلّ على اختلاف الأقوال بين المذاهب‏.‏

واختلفوا أيضاً في شروط أخذ العشر من المستأمن من البلوغ والعقل والذكورة‏.‏ كما أنّهم اختلفوا في المقدار الواجب في تجارته والمدّة الّتي يجزئ عنها العشر‏,‏ ووقت استيفائه‏.‏ والتّفصيل في مصطلح ‏(‏ عشر ف / 11‏,‏ 15 16‏,‏ 17‏,‏ 26‏,‏ 29‏,‏ 30 ‏)‏‏.‏

ما يرضخ للمستأمن من مال الغنيمة

57 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه لو باشر المستأمن القتال بإذن الإمام‏,‏ فهو بمنزلة أهل الذّمّة في استحقاق الرّضخ‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ لا يرضخ للمستأمن كما لا يسهم للذّمّيّ‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏ غنيمة ف / 3 ‏)‏‏.‏

ما يستحقّه للمستأمن من الكنز والمعدن

58 - إذا وجد المستأمن في دارنا كنزاً أو معدناً فقد نصّ الحنفيّة على أنّه يؤخذ منه كله‏,‏ لأنّ هذا في معنى الغنيمة‏,‏ ولا حقّ لأهل الحرب في غنائم المسلمين رضخاً ولا سهماً‏.‏

وإن عمل في المعدن بإذن الإمام‏,‏ أخذ منه الخمس‏,‏ وما بقي فهو له‏,‏ لأنّ الإمام شرط له ذلك لمصلحة‏,‏ فعليه الوفاء بما شرط‏,‏ كما لو استعان بهم في قتال أهل الحرب فرضخ لهم‏,‏ فهذا مثله‏.‏

تحول المستأمن إلى ذمّيٍّ

59 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ المستأمن يصير ذمّياً بأن يمكث المدّة المضروبة له‏,‏ أو بأن يشتري أرض خراج ووضع عليه الخراج‏,‏ أو بأن تتزوّج المرأة المستأمنة مسلماً‏,‏ أو ذمّياً‏,‏ لأنّها التزمت البقاء تبعاً للزّوج‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏ أهل الذّمّة ف / 12 - 15 ‏)‏‏.‏

استئمان المسلم

60 - إذا دخل المسلم دار الكفّار بأمان صار مستأمناً كما نصّ عليه جمهور الفقهاء ويترتّب على استئمانه أحكام على النّحو التّالي‏:‏

أ - حرمة خيانة الكفّار والغدر بهم‏:‏

61 - نصّ جمهور الفقهاء على أنّه تحرم على المسلم الّذي دخل دار الكفّار بأمان خيانتهم‏,‏ فلا يحل له أن يتعرّض لشيء من أموالهم ودمائهم وفروجهم‏,‏ لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ « المسلمون على شروطهم »‏,‏ ولأنّه بالاستئمان ضمن لهم أن لا يتعرّض بهم‏,‏ وإنّما أعطوه الأمان بشرط عدم خيانتهم‏,‏ وإن لم يكن ذلك مذكوراً في اللّفظ‏,‏ فهو معلوم في المعنى‏,‏ ولا يصلح في ديننا الغدر‏.‏

واستثنى الحنفيّة حالة ما إذا غدر بالمسلم ملكهم‏,‏ فأخذ أمواله أو حبسه‏,‏ أو فعل غير الملك ذلك بعلمه ولم يمنعه‏,‏ لأنّهم هم الّذين نقضوا العهد‏.‏

فإن خان المسلم المستأمن الكفّار‏,‏ أو سرق منهم‏,‏ أو اقترض منهم شيئاً‏,‏ فنصّ الشّافعيّة والحنابلة على أنّه يجب عليه رد ما أخذ إلى أربابه‏,‏ فإن جاء أربابه إلى دار الإسلام بأمان أو إيمان ردّه عليهم‏,‏ وإلّا بعث به إليهم لأنّه أخذه على وجهٍ حرم عليه أخذه فلزمه رد ما أخذ‏,‏ كما لو أخذه من مال مسلم‏,‏ ولأنّه ليس له التّعرض لهم إذا دخل بأمان‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ إذا دخل المسلم دار الحرب بأمان وأخرج إلينا شيئاً ملكه ملكاً حراماً‏,‏ لأنّه ملكه بالغدر‏,‏ فيتصدّق به وجوباً‏,‏ ولو لم يخرجه ردّه عليهم‏.‏

ب - معاملات المستأمن المسلم الماليّة‏:‏

62 - نصّ جمهور الحنفيّة على أنّه لو أدّان حربي المسلم المستأمن ديناً ببيع أو قرض‏,‏ أو أدّان هو حربياً‏,‏ أو غصب أحدهما صاحبه مالاً‏,‏ ثمّ خرج المسلم إلينا واستأمن الحربي فخرج إلينا مستأمناً‏,‏ لم يقض لواحد منهما على صاحبه بشيء‏.‏

أما الإدانة‏:‏ فلأنّ القضاء يعتمد الولاية‏,‏ ولا ولاية وقت الإدانة أصلاً على واحد منهما‏,‏ إذ لا قدرة للقاضي فيه على من هو في دار الحرب‏,‏ ولا وقت القضاء على المستأمن‏,‏ لأنّه ما التزم أحكام الإسلام فيما مضى من أفعاله وإنّما التزمه فيما يستقبل‏.‏

وأمّا أنّه لا يقضي بالغصب لكلّ منهما فلأنّ المال المغصوب صار ملكاً للّذي غصبه‏,‏ سواء كان الغاصب كافراً في دار الحرب أو مسلماً مستأمناً واستولى عليه‏,‏ لمصادفته مالاً مباحاً غير معصوم‏,‏ فصار كالإدانة‏.‏

وقال أبو يوسف يقضي بالدّين على المسلم دون الغصب لأنّه التزم أحكام الإسلام حيث كان‏.‏ قال الحصكفيّ نقلاً عن الزّيلعيّ‏,‏ والكمال ابن الهمام‏:‏ ويفتى بردّ المغصوب والدّين ديانةً لا قضاءً‏,‏ لأنّه غدر‏.‏

وعند الشّافعيّة والحنابلة يجب رد ما أخذ إلى أربابه‏.‏

ج - قتال المسلم المستأمن في دار الحرب‏:‏

63 - نصّ الحنفيّة على أنّه لو أغار قوم من أهل الحرب على أهل الدّار الّتي فيها المسلم المستأمن‏,‏ لا يحل له قتال هؤُلاء الكفّار إلّا إن خاف على نفسه‏,‏ لأنّ القتال لمّا كان تعريضاً لنفسه على الهلاك لا يحل إلّا لذلك‏,‏ أو لإعلاء كلمة اللّه‏,‏ وهو إذا لم يخف على نفسه‏,‏ ليس قتاله لهؤُلاء إلّا إعلاءً للكفر‏.‏

ولو أغار أهل الحرب الّذين فيهم مسلمون مستأمنون على طائفة من المسلمين‏,‏ فأسروا ذراريّهم‏,‏ فمروا بهم على أولئك المستأمنين‏,‏ وجب عليهم أن ينقضوا عهودهم‏,‏ ويقاتلوهم إذا كانوا يقدرون عليه‏,‏ لأنّهم لا يملكون رقابهم فتقريرهم في أيديهم تقرير على الظلم‏,‏ ولم يضمن المسلمون المستأمنون ذلك لهم‏,‏ بخلاف الأموال‏,‏ لأنّهم ملكوها بالإحراز وقد ضمنوا لهم أن لا يتعرّضوا لأموالهم‏.‏

وكذلك لو كان المأخوذ ذراريّ الخوارج‏,‏ لأنّهم مسلمون‏.‏

د - قتل المستأمن المسلم مسلماً آخر في دار الحرب‏:‏

64 - نصّ الحنفيّة على أنّه إذا دخل مسلمان دار الحرب بأمان فقتل أحدهما صاحبه عمداً أو خطأً‏,‏ فعلى القاتل الدّية في ماله في القتل العمد‏,‏ أما القصاص فيسقط لأنّه لا يمكن استيفاؤُه إلّا بمنع‏,‏ ولا منعة دون الإمام وجماعة المسلمين‏,‏ ولم يوجد ذلك في دار الحرب‏,‏ فلا فائدة في الوجوب فيسقط القصاص وتجب الدّية‏,‏ وأمّا وجوبها في ماله فلأنّ العواقل لا تعقل العمد‏.‏

وفي القتل الخطأ تجب الدّية في ماله والكفّارة‏,‏ أما الدّية فلأنّ العصمة الثّابتة‏,‏ بالإحراز بدار الإسلام لا تبطل بعارض الدخول إلى دار الحرب بالأمان‏,‏ وأمّا في ماله فلتعذر الصّيانة على العاقلة مع تباين الدّارين‏,‏ وأمّا وجوب الكفّارة فلإطلاق قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ‏}‏ بلا تقييد بدار الإسلام أو الحرب‏.‏

ونصّ الشّافعيّة على أنّه إذا كان المسلمون مستأمنين في دار الحرب‏,‏ فقتل بعضهم بعضاً‏,‏ أو قذف بعضهم بعضاً‏,‏ أو زنوا بغير حربيّة‏,‏ فعليهم في هذا كلّه الحكم كما يكون عليهم لو فعلوه في بلاد الإسلام‏,‏ ولا تسقط دار الحرب عنهم فرضاً كما لا تسقط عنهم صوماً ولا صلاةً ولا زكاةً‏,‏ والحدود فرض عليهم كما هذه فرض عليهم‏,‏ وإنّما يسقط عنهم حد الزّنا لو زنى بحربيّة إذا ادّعى الشبهة‏.‏

مُسْتحاضَة

انظر‏:‏ استحاضة‏.‏

مُسْتحَبّ

انظر‏:‏ استحباب‏.‏

مُسْتَحقّ

انظر‏:‏ استحقاق‏.‏

مُسْتَحلَف

انظر‏:‏ إثبات‏.‏

مُسْتَحِيل

انظر‏:‏ استحالة‏.‏

مُسْتَعار

انظر‏:‏ إعارة‏.‏

مُسْتَعِير

انظر‏:‏ إعارة‏.‏

مُسْتَفْتِي

انظر‏:‏ فتوى‏.‏

مُسْتَمِع

انظر‏:‏ استماع ‏.‏

مُسْتَهِلّ

انظر‏:‏ استهلال‏.‏

مُسْتَودع

انظر‏:‏ وديعة‏.‏

مَسْتُور

انظر‏:‏ ستر‏.‏

مُسْتَولَدَة

انظر‏:‏ استيلاد‏.‏

مَسْجِد

التّعريف

1 - المسجد في اللغة‏:‏ بيت الصّلاة‏,‏ وموضع السجود من بدن الإنسان والجمع مساجد‏.‏ وفي الاصطلاح‏:‏ عرّف بتعريفات كثيرة منها‏:‏ أنّها البيوت المبنيّة للصّلاة فيها للّه فهي خالصة له سبحانه ولعبادته‏.‏

وكل موضع يمكن أن يعبد اللّه فيه ويسجد له‏,‏ لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ « جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً »‏.‏

وخصّصه العرف بالمكان المهيّأ للصّلوات الخمس‏,‏ ليخرج المصلّى المجتمع فيه للأعياد ونحوها‏,‏ فلا يعطى حكمه‏,‏ وكذلك الربط والمدارس فإنّها هيّئت لغير ذلك‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الجامع‏:‏

2 - من معاني الجامع في اللغة‏:‏ أنّه المسجد الّذي تصلّى فيه الجمعة‏,‏ وسمّي بذلك لأنّه جمع النّاس لوقت معلوم‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن هذا المعنى‏.‏

والصّلة بينهما هي أنّ الجامع أخص من المسجد‏.‏

ب - المُصَلَّى‏:‏

3 - المصلّى في اللغة بصيغة اسم المفعول‏:‏ موضع الصّلاة أو الدعاء‏.‏

ويراد به في الاصطلاح الفضاء والصّحراء‏,‏ وهو المجتمع فيه للأعياد ونحوها‏.‏

والصّلة بين المسجد والمصلّى أنّ المصلّى أخص من المسجد‏.‏

ج - الزّاوية‏:‏

4 - الزّاوية في اللغة‏:‏ واحدة الزّوايا‏,‏ وزاوية البيت اسم فاعل من ذلك لأنّها جمعت قطرين منه ويطلق على المسجد غير الجامع ليس فيه منبر‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي لهذا اللّفظ عن معناه اللغويّ‏.‏

والصّلة بينهما أنّ المسجد أعم‏.‏

بناء المساجد وعمارتها ووظائفها

5 - يجب بناء المساجد في الأمصار والقرى والمحالّ - جمع محلّة - ونحوها حسب الحاجة وهو من فروض الكفاية‏.‏

والمساجد هي أحب البقاع إلى اللّه تعالى في الأرض وهي بيوته الّتي يوحّد فيها ويعبد‏,‏ يقول سبحانه‏:‏ ‏{‏ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ‏}‏‏,‏ قال ابن كثير‏:‏ أي أمر اللّه تعالى بتعاهدها وتطهيرها من الدّنس واللّغو والأقوال والأفعال الّتي لا تليق فيها‏,‏ كما قال ابن عبّاس‏:‏ نهى اللّه سبحانه عن اللّغو فيها‏,‏ وقال قتادة‏:‏ هي هذه المساجد أمر اللّه سبحانه وتعالى ببنائها وعمارتها ورفعها وتطهيرها‏,‏ وقد ذكر لنا أنّ كعباً كان يقول‏:‏ مكتوب في التّوراة‏:‏ أنّ بيوتي في الأرض المساجد وأنّه من توضّأ فأحسن وضوءه ثمّ زارني في بيتي أكرمته وحق على المزور كرامة الزّائر‏.‏

وقد وردت أحاديث كثيرة في بناء المساجد واحترامها وتوقيرها وتطييبها وتبخيرها‏.‏

فعن عثمان بن عفّان رضي اللّه عنه قال‏:‏ سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول‏:‏ « من بنى مسجداً يبتغي به وجه اللّه بنى اللّه له مثله في الجنّة »‏.‏

وعن عائشة رضي اللّه عنها قالت‏:‏ « إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أمر بالمساجد أن تبنى في الدور وأن تطهّر وتطيّب »‏.‏

وعن واثلة بن الأسقع رضي اللّه عنه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ « جنّبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وشراءكم وبيعكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم وسلّ سيوفكم واتّخذوا على أبوابها المطاهر المراحيض وجمّروها في الجمع »‏.‏

وقد بنيت المساجد لذكر اللّه وللصّلاة فيها كما قال النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم للأعرابيّ الّذي بال في طائفة المسجد‏:‏ « إنّ هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر إنّما هي لذكر اللّه عزّ وجلّ والصّلاة وقراءة القرآن فهي بيوت اللّه في أرضه ومواطن عبادته وشكره وتوحيده وتنزيهه »‏.‏

وهذا داخل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ، لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏}‏‏.‏

ولذا يستحب لزومها والجلوس فيها لما في ذلك من إحياء البقعة وانتظار الصّلاة‏,‏ وفعلها في أوقاتها على أكمل الأحوال‏,‏ قال أبو الدّرداء رضي اللّه عنه لابنه‏:‏ يا بنيّ ليكن المسجد بيتك فإنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول‏:‏ « المساجد بيوت المتّقين وقد ضمن اللّه عزّ وجلّ لمن كان المساجد بيوته الرّوح والرّحمة والجواز على الصّراط »‏.‏

فضل المساجد الثّلاثة

6 - تفضل المساجد الثّلاثة ‏"‏ المسجد الحرام بمكّة المسجد النّبوي بالمدينة‏,‏ المسجد الأقصى بالقدس ‏"‏ غيرها من المساجد الأخرى بأنّها الّتي تشد إليها الرّحال دون غيرها‏,‏ وقد ورد ذلك في أحاديث كثيرة منها حديث أبي هريرة‏,‏ وأبي سعيد رضي اللّه عنهما أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال‏:‏ « لا تشد الرّحال إلّا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى »‏.‏

ولذا قال العلماء‏:‏ من نذر صلاةً في مسجد لا يصل إليه إلّا برحلة وراحلة فلا يفعل ويصلّي في مسجده إلّا في الثّلاثة المساجد المذكورة‏,‏ فإنّ من نذر صلاةً فيها خرج إليها‏,‏ ومن نذر المشي لمسجد غير هذه المساجد الثّلاثة لاعتكاف أو صوم فإنّه لا يلزمه الإتيان لذلك المسجد ويفعل تلك العبادة بمحلّه‏,‏ أمّا من نذر الإتيان لمسجد من المساجد الثّلاثة لأجل صوم أو صلاة أو اعتكاف فإنّه يلزمه الإتيان إليه‏.‏

أمّا أنّ الرّحال لا تشد لغيرها من المساجد فلأنّ غيرها من المساجد ليس في معناها‏,‏ إذ هي متماثلة‏,‏ ولا بلد إلّا وفيه مسجد ولا معنى للرّحلة إلى مسجد آخر‏,‏ وعلى هذا وكما قال العلماء لو عيّن مسجداً غير المساجد الثّلاثة لأداء فريضة أو نافلة لم يتعيّن عليه ذلك‏,‏ لأنّه لم يثبت لبعضها فضل على بعض‏,‏ فلم يتعيّن لأجل ذلك منها ما عيّنه وهو المشهور عند الشّافعيّة‏.‏

كما تفضل هذه المساجد الثّلاثة بزيادة ثواب الصّلاة فيها عنه في غيرها وإن كانت تتفاضل في هذا الثّواب فيما بينها‏.‏

فعن أبي الدّرداء رضي اللّه عنه عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال‏:‏ « فضل الصّلاة في المسجد الحرام على غيره بمائة ألف صلاة وفي مسجدي ألف صلاة وفي مسجد بيت المقدس خمسمائة صلاة »‏.‏

قال الزّركشي‏:‏ إنّ هذه المضاعفة في المسجدين لا تختص بالفريضة‏,‏ بل تعم النّفل والفرض كما قال النّوويّ في شرح مسلم‏:‏ إنّه المذهب‏,‏ قلت‏:‏ وهو لازم للأصحاب من استثنائهم النّفل بمكّة من الوقت المكروه لأجل زيادة الفضيلة‏.‏

وقال الطّحاويّ من الحنفيّة في شرح الآثار‏:‏ وهو مختصٌّ بالفرض وأنّ فعل النّوافل في البيت أفضل من المسجد الحرام‏,‏ وكذلك ذكره ابن أبي زيد من المالكيّة‏,‏ وقال ابن أبي الصّيف اليمنيّ‏:‏ هذا التّضعيف في الصّلوات يحتمل أن يعمّ الفرض والنّفل‏,‏ وهو ظاهر الأخبار‏,‏ ويحتمل أن يختصّ به الفرض دون النّفل‏,‏ لأنّ النّفل دونه‏.‏

والمسجد الحرام هو أوّل مسجد وضع للنّاس في الأرض للتّعبد فيه‏,‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ‏}‏‏,‏ ولذلك كان أفضل المساجد‏,‏ فهو قبلة المصلّين وكعبة الزّائرين وفيه الأمن والأمان‏.‏

وعن أبي ذر رضي اللّه عنه قال‏:‏ « قلت يا رسول اللّه أي مسجد وضع في الأرض أوّل قال المسجد الحرام قلت ثمّ أي قال المسجد الأقصى قلت كم كان بينهما قال أربعون سنةً ثمّ أينما أدركتك الصّلاة بعد فصلّه فإنّ الفضل فيه »‏.‏

وأمّا مسجد المدينة فقال الزّركشي‏:‏ أنشأ أصله سيّد المرسلين والمهاجرون الأوّلون والأنصار المتقدّمون خيار هذه الأمّة‏,‏ وفي ذلك من مزيد الشّرف على غيره ما لا يخفى‏,‏ واشتمالها على بقعة هي أفضل بقاع الأرض بالإجماع‏,‏ وهو الموضع الّذي ضمّ أعضاء النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم‏,‏ حكى الإجماع القاضي عياض وغيره‏,‏ وفي ذلك قال‏:‏ بعضهم - وهو أبو محمّد بن عبد اللّه البسكريّ المغربي -‏:‏

جزم الجميع بأنّ خير الأرض ما *** قد حاط ذات المصطفى وحواها

ونعم لقد صدقوا بساكنها علت *** كالنّفس حين زكت زكا مأواها

ولذا ندب الشّارع إلى زيارته والصّلاة فيه وللمسجد الأقصى قداسته وعراقته وله مكانته في الإسلام حيث كان قبلة المسلمين في فترة من الزّمان‏,‏ وكان إليه مسرى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ليلة أسري به من المسجد الحرام إليه‏,‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ‏}‏‏.‏

فهذه الآية تعظّم قدره بإسراء سيّدنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إليه من المسجد الحرام بمكّة‏,‏ وصلاته فيه بالأنبياء إماماً قبل عروجه إلى السّماء وبعد أن صلّى فيه ركعتين‏,‏ هذا إلى إخبار اللّه تعالى بالبركة حوله‏,‏ إمّا بأن جعل حوله من الأنبياء المصطفين الأخيار‏,‏ وإمّا بكثرة الثّمار ومجاري الأنهار‏,‏ فعن أنس بن مالكٍ رضي اللّه عنه قال‏:‏ « إنّ الجنّة تحن شوقاً إلى بيت المقدس وصخرة بيت المقدس من جنّة الفردوس وهي صرّة الأرض »‏.‏

آداب الدخول إلى المساجد الثّلاثة وغيرها

7 - إذا عاين داخل المسجد الحرام البيت ووقع بصره عليه رفع يديه وقال‏:‏ اللّهمّ زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ومهابةً وزد من شرفه وكرمه وعظمه ممّن حجّه أو اعتمره تشريفاً وتكريماً وتعظيماً وبراً‏.‏

وعن عطاء أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كان يقول إذا لقي البيت‏:‏ « أعوذ بربّ البيت من الدّين والفقر وضيق الصّدر وعذاب القبر »، ويرفع يديه ويقول‏:‏ « اللّهمّ أنت السّلام ومنك السّلام فحيّنا ربّنا بالسّلام »‏.‏

ومن السنّة أن يبدأ حين دخوله بتقديم الرّجل اليمنى وليس ذلك بالنّسبة للمسجد الحرام فقط‏,‏ بل بالنّسبة للمساجد كلّها‏.‏

ويستحب أن يقول‏:‏ ‏"‏ اللّهمّ اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك ‏"‏‏,‏ ويقول كذلك‏:‏ اللّهمّ أنت ربّي وأنا عبدك جئت لأؤدّي فرضك وأطلب رحمتك وألتمس رضاك‏,‏ متبعاً لأمرك راضياً بقضائك‏,‏ أسألك مسألة المضطرّين المشفقين من عذابك أن تستقبلني اليوم بعفوك تحفظني برحمتك وتتجاوز عنّي بمغفرتك وتعينني على أداء فرائضك‏,‏ اللّهمّ افتح لي أبواب رحمتك وأدخلني فيها وأعذني من الشّيطان الرّجيم‏.‏

وله أن يدعو بكلّ لفظ فيه التّضرع والخشوع‏.‏

ويستحب له أن يدخل المسجد من باب بني شيبة المعروف الآن بباب السّلام إذ منه « دخل عليه الصّلاة والسّلام »‏,‏ هذا ما انعقد إجماع الأئمّة عليه‏.‏

8 - ولا يختلف دخول مسجد النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بالمدينة عن دخول غيره من المساجد من حيث تقديم الدّاخل رجله اليمنى قائلاً‏:‏ ‏"‏ اللّهمّ اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك ‏"‏‏,‏ ويدخل من باب جبريل أو غيره ويقصد الرّوضة الشّريفة وهي بين المنبر والقبر الشّريف فيصلّي تحيّة المسجد مستقبلاً السّارية الّتي تحتها الصندوق بحيث يكون عمود المنبر حذاء منكبه الأيمن إن أمكنه وتكون الحنيّة الّتي في قبلة المسجد بين عينيه فذلك موقف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فيما قيل قبل أن يغيّر المسجد‏,‏ ثمّ يأتي القبر الشّريف فيستقبل جداره ويستدبر القبلة على نحو أربعة أذرع من السّارية الّتي عند رأس القبر في زاوية جداره‏,‏ ثمّ يقول في موقفه‏:‏ السّلام عليك يا رسول اللّه‏,‏ السّلام عليك يا خير خلق اللّه‏,‏ السّلام عليك يا خيرة اللّه من جميع خلقه‏,‏ السّلام عليك يا حبيب اللّه‏,‏ السّلام عليك يا سيّد ولد آدم‏,‏ السّلام عليك أيّها النّبي ورحمة اللّه وبركاته‏,‏ يا رسول اللّه إنّي أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له وأنّك عبده ورسوله وأشهد أنّك يا رسول اللّه قد بلّغت الرّسالة وأدّيت الأمانة ونصحت الأمّة وكشفت الغمّة فجزاك اللّه عنّا خيراً‏,‏ جازاك اللّه عنّا أفضل ما جازى نبياً عن أمّته‏,‏ اللّهمّ أعط سيّدنا عبدك ورسولك محمّداً الوسيلة والفضيلة والدّرجة العالية الرّفيعة وابعثه المقام المحمود الّذي وعدّته‏,‏ وأنزله المنزل المقرّب عندك إنّك سبحانك ذو الفضل العظيم‏,‏ ويسأل اللّه تعالى حاجته‏.‏

هذا ما عليه عامّة الفقهاء مع اختلاف يسير في صيغ بعض الأدعية‏.‏

9 - وآداب دخول بيت المقدس لا تختلف عن آداب دخول غيره من المساجد فقد دخله الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم ليلة أسري به برجله اليمنى وصلّى فيه ركعتي تحيّة المسجد وأمّ الأنبياء‏.‏

10 - ثمّ آداب دخول المساجد في غير ما ذكر أن يقدّم الدّاخل رجله اليمنى في الدخول واليسرى في الخروج لحديث أنس رضي اللّه عنه‏:‏ « من السنّة إذا دخلت المسجد أن تبدأ برجلك اليمنى وإذا خرجت أن تبدأ برجلك اليسرى »‏.‏

قال البخاري‏:‏ وكان ابن عمر يبدأ برجله اليمنى فإذا خرج بدأ برجله اليسرى‏,‏ وذلك لقاعدة الشّرع أنّ ما كان من باب التّشريف والتّكريم يندب فيه التّيامن وما كان بضدّه يندب فيه التّياسر‏,‏ وإذا أخرج يسراه من المسجد وضعها على ظاهر نعله‏,‏ ويخرج يمناه ويقدّمها في اللبس‏,‏ وعند الدخول يخلع يسراه ويضعها على ظاهر نعله‏,‏ ثمّ يخرج اليمنى ويقدّمها دخولاً‏.‏

وقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ « إذا دخل أحدكم المسجد فليقل اللّهمّ افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليقل اللّهمّ إنى أسألك من فضلك »‏.‏

وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ « إذا دخل أحدكم المسجد فليسلّم على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وليقل اللّهمّ افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليسلّم على النّبيّ وليقل اللّهمّ اعصمني من الشّيطان الرّجيم »‏.‏

وعن فاطمة رضي اللّه عنها بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قالت‏:‏ « كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا دخل المسجد صلّى على محمّد وسلّم ثمّ قال ربّ اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج صلّى على محمّد وسلّم ثمّ قال ربّ اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك »‏.‏

تحيّة المسجد

11 - يرى جمهور الفقهاء أنّه يسن لكلّ من يدخل مسجداً غير المسجد الحرام - يريد الجلوس به وكان متوضّئاً - أن يصلّي ركعتين أو أكثر قبل الجلوس‏.‏

أمّا تحيّة المسجد الحرام فهي عندهم الطّواف للقادم لمكّة‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏ تحيّة ف / 5 وما بعدها ‏)‏‏.‏

البناء للسّكن فوق المسجد وتحته وبناؤُه على القبر والدّفن فيه

12 - أجاز المالكيّة اتّخاذ منزل للسّكن فيه تحت المسجد ولم يجيزوا اتّخاذه فوقه‏.‏

ولم يجيزوا الدّفن فيه لأنّه يؤدّي لنبشه إلّا لمصلحة تعود على الميّت‏.‏

وقال الحنابلة - كما نقل ابن مفلح عن المستوعب - إن جعل أسفل بيته مسجداً لم ينتفع بسطحه‏,‏ وإن جعل سطحه مسجداً انتفع بأسفله‏,‏ نصّ عليه‏,‏ وقال أحمد‏:‏ لأنّ السّطح لا يحتاج إلى أسفل‏.‏

وحرّموا الدّفن بالمساجد وكذا بناء المساجد على القبر لقول ابن عبّاس رضي اللّه عنهما‏:‏ «لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم زائرات القبور والمتّخذين عليها المساجد والسرج »‏.‏

ويقول الحنفيّة‏:‏ إذا جعل السفل مسجداً وعلى ظهره مسكن فهو مسجد لأنّ المسجد ممّا يتأبّد وذلك يتحقّق في السفل دون العلو‏,‏ وعن محمّد على عكس هذا لأنّ المسجد معظّم‏,‏ وإذا كان فوقه مسكن أو مستغل يتعذّر تعظيمه‏,‏ وعن أبي يوسف أنّه جوّز في الوجهين حين قدم بغداد ورأى ضيق المنازل فكأنّه اعتبر الضّرورة‏,‏ وعن محمّد أنّه حين دخل الرّيّ أجاز ذلك كلّه‏.‏

وروي عن أبي حنيفة أنّه إذا جعل السفل مسجداً دون العلو جاز لأنّه يتأبّد بخلاف العلو‏.‏ قال ابن عابدين‏:‏ لو جعل تحته سرداباً لمصالحه جاز‏.‏

وكره الشّافعيّة بناء مسجد على القبر‏,‏ فعن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم « اللّهمّ لا تجعل قبري وثناً لعن اللّه قوماً اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد »‏,‏ قال الشّافعي رحمه اللّه‏:‏ وأكره أن يعظّم مخلوق حتّى يجعل قبره مسجداً مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من النّاس‏,‏ وعن ابن عبّاس رضي اللّه عنهما « أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لعن زائرات القبور والمتّخذين عليها المساجد والسرج »‏.‏

ونقل الزّركشي عن مالكٍ أنّه كره أن يبني مسجداً ويتّخذ فوقه مسكناً يسكن فيه بأهله‏,‏ قال الزّركشي‏:‏ وفي فتاوى البغويّ ما يقتضي منع مكث الجنب فيه لأنّه جعل ذلك هواء المسجد وهواء المسجد حكمه حكم المسجد‏.‏

بناء المسجد بمتنجّس

13 - نقل الزّركشي عن القاضي أبي الطّيّب الطّبريّ قوله‏:‏ لا يجوز بناء المسجد باللّبن المعجون بالماء النّجس بناءً على نجاسته ويطهر بالغسل ظاهره دون باطنه على الجديد الأصحّ‏.‏

ترميم المساجد

14 - للتّرميم في اللغة معان‏,‏ منها‏:‏ الإصلاح‏,‏ يقال‏:‏ رمّمت الحائط وغيره ترميماً‏:‏ أصلحته‏,‏ ويقال‏:‏ رمَّمْت الشّيء أرُمُّه وأرِمُّه رَمّاً ومرمَّةً إذا أصلحته‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏.‏

والتّرميم قد يكون بقصد التّقوية إذا كان الشّيء معرّضاً للتّلف‏,‏ وقد يكون بقصد التّحسين‏.‏ وترميم المساجد لا يخرج في معناه أو الغرض منه عمّا سبق‏.‏

15 - وترميم المساجد من عمارتها المأمور بها شرعاً‏,‏ والعمارة فرض كفاية إن قام بها بعض المسلمين سقط الإثم عن الباقين‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ ‏}‏‏.‏

قال القرطبي‏:‏ أثبت الإيمان في الآية لمن عمّر المساجد بالصّلاة فيها وتنظيفها وإصلاح ما وهي منها وآمن باللّه‏.‏

وقال القليوبيّ‏:‏ عمارة المسجد هي البناء والتّرميم والتّجصيص للإحكام ونحو ذلك‏,‏ وأجرة القيّم ومصالحه تشمل ذلك‏.‏

وقال‏:‏ لو زاد ريع ما وقف على المسجد لمصالحه أو مطلقاً ادّخر لعمارته‏,‏ وله شراء شيء به ممّا فيه زيادة غلّته ولو زاد ريع ما وقف لعمارته ولم يشتر منه شيء‏,‏ ويقدّم عمارة عقاره على عمارته وعلى المستحقّين وإن لم يشترطه الواقف‏,‏ كذا في العباب‏.‏ وللتّفصيل ‏(‏ ر‏:‏ وقف ‏)‏

تزويق المساجد

16 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه لا بأس بنقش المسجد خلا محرابه فإنّه يكره لأنّه يلهي المصلّي‏,‏ وكرهوا التّكلف بدقائق النقوش ونحوها خصوصاً في جدار القبلة‏.‏

وقيل‏:‏ يكره في المحراب دون السّقف وظاهره أنّ المراد بالمحراب جدار القبلة‏.‏

والمراد بالنّقش هنا ما كان بالجصّ وماء الذّهب لو كان بمال النّاقش‏,‏ أمّا لو كان من مال الوقف فهو حرام ويضمن متولّيه لو فعله‏.‏

وإن اجتمعت أموال المسجد وخاف المتولّي الضّياع بطمع الظّلمة لا بأس به حينئذ‏.‏

وليس بمستحسن كتابة القرآن على المحاريب والجدران ممّا يخاف من سقوط الكتابة وأن توطأ‏,‏ ولا يجوز للقيّم شراء المصلّيات لتعليقها بالأساطين ويجوز للصّلاة عليها‏,‏ ولكن لا تعلّق بالأساطين ولا يجوز إعارتها لمسجد آخر‏,‏ قال في القنية‏:‏ هذا إذا لم يعرف حال الواقف‏,‏ أمّا إذا أمر بتعليقها وأمر بالدّرس فيه وبناه للدّرس وعاين العادة الجارية في تعليقها بالأساطين في المساجد الّتي يدرّس فيها فلا بأس بشرائها بمال الوقف في مصلحته إذا أحتيج إليها ولا يضمن إن شاء اللّه تعالى‏.‏

وكره المالكيّة تزويق حيطان المسجد وسقفه وخشبه والسّاتر بالذّهب والفضّة إذا كان بحيث يشغل المصلّي وإلّا فلا‏,‏ كما يكره كذلك عندهم تزويق القبلة بالذّهب وغيره‏,‏ وكذلك الكتابة فيها‏,‏ وأمّا إتقان المسجد بالبناء والتّجصيص فمندوب‏.‏

وعند الشّافعيّة‏:‏ قال الزّركشي‏:‏ يكره نقش المسجد‏,‏ ولا شكّ أنّه لا يجوز صرف غلّة ما وقف على عمارته في ذلك‏,‏ وعبارة القاضي الحسين‏:‏ لا يجوز صرفها إلى التّجصيص والتّزويق‏,‏ وقد روي أنّ ابن مسعود رضي اللّه عنه مرّ بمسجد مزخرف فقال‏:‏ لعن اللّه من زخرفه أو قال لعن اللّه من فعل هذا المساكين أحوج من الأساطين‏.‏

وما يفعله جهلة النظّار من ذلك سفهٌ مضمّن أموالهم‏.‏

وقال البغويّ في شرح السنّة‏:‏ لا يجوز تنقيش المسجد بما لا إحكام فيه‏,‏ وقال في الفتاوى فإن كان في إحكام فلا بأس‏,‏ فإنّ عثمان رضي اللّه عنه بنى المسجد بالقَصّة - الجصّ والجير - والحجارة المنقوشة‏,‏ قال البغويّ‏:‏ ومن زوّق مسجداً أي تبرعاً لا يعد من المناكير الّتي يبالغ فيها كسائر المنكرات‏,‏ لأنّه يفعله تعظيماً لشعائر الإسلام‏,‏ وقد سامح فيه بعض العلماء‏,‏ وأباحه بعضهم‏,‏ ثمّ قال في موضع آخر‏:‏ لا يجوز نقش المسجد من غلّة الوقف ويغرم القيمة إن فعله‏,‏ فلو فعله رجل بماله كره‏,‏ ولأنّه يشغل قلب المصلّين‏.‏ وأطلق غيره عدم الجواز‏,‏ لأنّه بدعة منهي عنه‏,‏ ولأنّ فيه تشبهاً بالكفّار‏,‏ فقد ورد مرفوعاً‏:‏ « ما ساء عمل قوم قط إلّا زخرفوا مساجدهم »‏.‏

وإذا وقف على النّقش والتّزويق لا يصح على الأصحّ لأنّه منهي عنه‏,‏ ولأنّه من أشراط السّاعة‏,‏ لأنّه ممّا يلهي عن الصّلاة بالنّظر إليه‏,‏ وقيل‏:‏ يصح لما فيه من تعظيم المسجد وإعزاز الدّين‏.‏

ويكره زخرفتها‏,‏ قال ابن عبّاس‏:‏ لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنّصارى‏,‏ وعن أنس رضي اللّه عنه‏:‏ أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال‏:‏ « لا تقوم السّاعة حتّى يتباهى النّاس في المساجد »‏.‏

وورد أنّ عمر رضي اللّه عنه أمر ببناء مسجد وقال‏:‏ ‏"‏ أكِنَّ النّاس من المطر وإيّاك أن تحمّر أو تصفّر فتفتن النّاس ‏"‏‏,‏ وقال أبو الدّرداء‏:‏ إذا حليتم مصاحفكم وزخرفتم مساجدكم فالدَّبار الهلاك عليكم‏,‏ وقال علي رصّي اللّه عنه‏:‏ إنّ القوم إذا رفعوا مساجدهم فسدت أعمالهم‏.‏

ويكره أن يكتب في قبلة المسجد آية من القرآن أو شيئاً منه قاله مالك‏,‏ وجوّزه بعض العلماء وقال‏:‏ لا بأس به لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ‏}‏ الآية‏,‏ ولما روي من فعل عثمان ذلك بمسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم‏,‏ ولم ينكر ذلك‏.‏

وقال الزّركشي‏:‏ وفي تحلية المساجد بالذّهب والفضّة وتعليق قناديلها وجهان‏,‏ أصحهما‏:‏ التّحريم فإنّه لم ينقل عن السّلف‏,‏ والثّاني‏:‏ الجواز كما يجوز ستر الكعبة بالدّيباج‏,‏ ويحل الحرير لإلباس الكعبة‏,‏ وأمّا باقي المساجد فقال الشّيخ عز الدّين بن عبد السّلام‏:‏ لا بأس بستر المسجد بالثّياب من غير الحرير‏,‏ وأمّا الحرير فيحتمل أن يلحق بالتّزيين بقناديل الذّهب والفضّة‏,‏ ويحتمل أن يكون قولاً واحداً لأنّ أمره أهون‏,‏ ولم تزل الكعبة تستر بالحرير فلا يبعد إلحاق غيرها بها‏.‏ قلت‏:‏ وفي فتاوى الغزاليّ‏:‏ لا فرق في الإباحة بين الكعبة وغيرها‏,‏ لأنّ الحرير إنّما حرّم على الرّجال لا على النّساء فكيف الجمادات والمساجد‏,‏ ثمّ رأيت في فتاوى قاضي القضاة أبي بكر الشّاميّ أنّه لا يجوز أن يعلّق على حيطان المسجد ستوراً من حرير ولا من غيره‏,‏ ولا يصح وقفها عليه وهي باقية على ملك الواقف‏.‏

ويستحب فرش المساجد وتعليق القناديل والمصابيح‏,‏ ويقال‏:‏ أوّل من فعل ذلك عمر ابن الخطّاب رضي اللّه عنه لمّا جمع النّاس على أبي بن كعب في صلاة التّراويح‏,‏ ولمّا رأى علي رضي اللّه عنه اجتماع النّاس في المسجد على الصّلاة والقناديل تزهر وكتاب اللّه يتلى‏:‏ قال‏:‏ نوّرت مساجدنا نوّر اللّه قبرك يا بن الخطّاب‏,‏ وروي عن ميمونة مولاة النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم‏,‏ « قلت يا رسول اللّه أفتنا في بيت المقدس قال أرض المحشر والمنشر ائتوه فصلوا فيه فإنّ صلاةً فيه كألف صلاة في غيره قلت أرأيت إن لم أستطع أن أتحمّل إليه قال فتهدي له زيتاً يسرج فيه فمن فعل ذلك فهو كمن أتاه »‏.‏

ويقرب من ذلك مذهب الحنابلة فقد قالوا‏:‏ تحرم زخرفة المسجد بذهب أو فضّة‏,‏ وتجب إزالته إن تحصّل منه شيء بالعرض على النّار‏,‏ وأوّل من ذهّب الكعبة في الإسلام وزخرفها وزخرف المساجد الوليد بن عبد الملك‏.‏

ويكره أن يزخرف المسجد بنقش وصبغ وكتابة وغير ذلك‏,‏ ممّا يلهي المصلّي عن صلاته غالباً‏,‏ وإن فعل ذلك من مال الوقف حرم فعله‏,‏ ووجب ضمان مال الوقف الّذي صرفه فيه‏,‏ لأنّه لا مصلحة فيه‏,‏ وإن كان من ماله لم يرجع به على جهة الوقف‏,‏ وفي الغنية‏:‏ لا بأس بتجصيصه‏,‏ أي يباح تجصيص حيطانه أي تبييضها‏,‏ وصحّحه القاضي سعد الدّين الحارثي‏,‏ ولم يره أحمد‏,‏ وقال‏:‏ هو من زينة الدنيا‏,‏ قال في الشّرح‏:‏ ويكره تجصيص المساجد وزخرفتها‏,‏ فعليه يحرم من مال الوقف‏,‏ ويجب الضّمان لا على الأوّل‏.‏

ويصان عن تعليق مصحف وغيره في قبلته دون وضعه بالأرض‏,‏ قال أحمد‏:‏ يكره أن يعلّق في القبلة شيء يحول بينه وبين القبلة‏,‏ ولم يكره أن يوضع في المسجد المصحف أو نحوه‏.‏

تعليم الصّبيان في المسجد

17 - قال ابن الهمام من الحنفيّة‏:‏ هؤُلاء المكتّبون الّذين يجتمع عندهم الصّبيان في المساجد للتّعليم فإنّه لا يجوز لهم‏,‏ إذ هم لا يقصدون العبادة بل الارتزاق‏,‏ ومعلّم الصّبيان القرآن كالكاتب إن كان بالأجر لا يجوز وحسبةً للّه فلا بأس به‏,‏ ومنهم من فصّل هذا‏,‏ إن كان لضرورة الحرّ وغيره لا يكره وإلّا فيكره‏,‏ وسكت عن كونه بأجر أو غيره فينبغي حمله على ما إذا كان حسبةً‏,‏ فأمّا إن كان بأجر فلا شكّ في الكراهة‏,‏ وعلى هذا فإذا كان حسبةً ولا ضرورة يكره‏,‏ لأنّ نفس التّعليم ومراجعة الأطفال لا تخلو عمّا يكره في المسجد‏.‏

وقال ابن عابدين‏:‏ وفي الخلاصة تعليم الصّبيان في المسجد لا بأس به‏.‏

وكره المالكيّة تعليم الصّبيّ في المسجد إلّا أنّ ابن القاسم روى إن بلغ الصّبي مبلغ الأدب فلا بأس أن يؤتى به المسجد‏,‏ وإن كان صغيراً لا يقر فيه ويعبث فلا أحب ذلك‏.‏

والمذهب عندهم منع تعليم الصّبيان فيه مطلقاً سواء كان مظنّةً للعبث والتّقدير أم لا‏,‏ لأنّ الغالب عدم تحفظهم من النّجاسة‏.‏

وأمّا إحضار الصّبيّ المسجد فأجازوه حيث لا يعبث به ويكف عن العبث إذا نهي عنه‏,‏ فإن كان من شأنه العبث أو عدم الكفّ فلا يجوز إحضاره فيه‏,‏ لحديث‏:‏ « جنّبوا مساجدكم مجانينكم وصبيانكم »‏.‏

ونقل الزّركشي عن القفّال أنّه سئل عن تعليم الصّبيان في المسجد‏؟‏ فقال‏:‏ الأغلب من الصّبيان الضّرر بالمسجد فيجوز منعهم‏.‏

وقال الجراعيّ الحنبلي‏:‏ يسن أن يصان المسجد عن عمل صنعة‏,‏ ونقل عن السّامريّ قوله‏:‏ سواء كان الصّانع يراعي المسجد أو لم يكن‏,‏ وقال في رواية الأثرم‏:‏ ما يعجبني مثل الخيّاط والإسكاف وما أشبهه وسهّل في الكتابة فيه‏.‏

وقال القاضي سعد الدّين‏:‏ خصّ الكتابة لأنّها نوع تحصيل للعلم فهي في معنى الدّراسة‏,‏ وهذا يوجب التّقيد ممّا لا يكون تكسباً‏.‏

ونقل الجراعيّ عن ابن الصّيرفيّ أنّه قال في النّوادر‏:‏ لا يجوز التّعليم في المساجد‏.‏

وقال أبو العبّاس في الفتاوى المصريّة‏:‏ لا يجوز - وقد سئل عنها - يصان المسجد ممّا يؤذيه ويؤذي المسلمين حتّى رفع الصّبيان أصواتهم فيه‏,‏ كذلك توسيخهم لحصره ونحو ذلك‏,‏ لا سيّما إن كان ذلك وقت الصّلوات فإنّه من أعظم المنكرات‏,‏ وقال في موضع آخر منها‏:‏ وأمّا تعليم الصّبيان في المسجد بحيث يؤذون المسجد فيكونون يرفعون أصواتهم ويشغلون المصلّي فيه فهذا ممّا يجب النّهي عنه والمنع منه‏.‏

وأضاف الجراعيّ‏:‏ وقال صاحب الفروع - ابن مفلح - عقيب كلام القاضي سعد الدّين المتقدّم وينبغي أن يخرّج على هذا تعليم الصّبيان للكتابة في المسجد بالأجرة‏,‏ وتعليمهم تبرعاً جائز كتلقين القرآن‏,‏ وتعليم العلم‏,‏ وهذا كله بشرط أن لا يحصل ضرر وما أشبه ذلك‏.‏

رفع الصّوت في المسجد والجهر فيه

18 - قال الحنفيّة بكراهة رفع الصّوت بذكر في المسجد إلّا للمتفقّه‏,‏ وفي حاشية الحمويّ عن الشّعّرانيّ‏:‏ أجمع العلماء سلفاً وخلفاً على استحباب ذكر الجماعة في المساجد وغيرها‏,‏ إلّا أن يشوّش جهرهم على نائم أو مصل أو قارئ‏.‏

وصرّحوا بكراهة الكلام المباح في المسجد وقيّده في الظّهيريّة بأن يجلس لأجله لأنّ المسجد ما بني لأمور الدنيا‏.‏

وفي صلاة الجلّابيّ - كما نقل عنه ابن عابدين - الكلام المباح من حديث الدنيا يجوز في المساجد وإن كان الأولى أن يشتغل بذكر اللّه تعالى‏,‏ وقال ابن عابدين في تعليقه على قول الجلّابيّ‏:‏ فقد أفاد أنّ المنع خاصٌّ بالمنكر من القول أمّا المباح فلا‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ يكره رفع الصّوت في المسجد بذكر وقرآن وعلم فوق إسماع المخاطب ولو بغير مسجد‏,‏ ومحل كراهة رفع الصّوت في المسجد ما لم يخلّط على مصل وإلّا حرم‏,‏ بخلاف مسجد مكّة ومنى فيجوز رفع الصّوت فيهما على المشهور‏.‏

وقال الزّركشي‏:‏ يكره اللّغط ورفع الصّوت في المسجد‏.‏

وقال ابن مفلح‏:‏ يسن أن يصان عن لغطٍ وكثرة حديثٍ لاغ ورفع صوت بمكروه‏,‏ وظاهر هذا أنّه لا يكره ذلك إذا كان مباحاً أو مستحباً‏.‏

ونقل عن الغنية أنّه يكره إلّا بذكر اللّه تعالى‏.‏

ونقل عن ابن عقيل أنّه لا بأس بالمناظرة في مسائل الفقه والاجتهاد في المساجد إذا كان القصد طلب الحقّ‏,‏ فإن كان مغالبةً ومنافرةً دخل في حيّز الملاحاة والجدال فيما لا يعني ولم يجز في المسجد‏,‏ وأمّا الملاحاة في غير العلوم فلا تجوز في المسجد‏.‏

ونقل عنه أيضاً أنّه يكره كثرة الحديث واللّغط في المساجد‏.‏

التّقاضي في المسجد

19 - أجاز الحنفيّة والحنابلة التّقاضي في المسجد‏,‏ فللقاضي أن يجلس فيه للفصل في الخصومات جلوساً ظاهراً « فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يفصل بين الخصوم في المسجد »‏,‏ وكذا الخلفاء الرّاشدون من بعده‏,‏ ولئلّا يشتبه على الغرباء مكانه فإن كان الخصم حائضاً أو نفساء خرج القاضي إلى باب المسجد فنظر في خصومتها أو أمر من يفصل بينهما كما لو كانت المنازعة في دابّة فإنّه يخرج لاستماع الدّعوى والإشارة إليها في الشّهادة‏.‏

وللمالكيّة طريقتان‏:‏ الأولى استحباب الجلوس في الرّحاب وكراهته في المسجد‏,‏ والثّانية استحباب جلوسه في نفس المسجد‏.‏

وكره الشّافعيّة للقاضي أن يجلس للقضاء في المسجد‏,‏ لما روي أنّ معاذاً رضي اللّه عنه قال‏:‏ قال النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ « جنّبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم ورفع أصواتكم وخصوماتكم وحدودكم وسلّ سيوفكم وشراءكم وبيعكم »‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏ قضاء ف / 38 ‏)‏‏.‏

إقامة الحدود والتّعازير فيه

20 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا تقام الحدود في المساجد لقول النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال‏:‏ « جنّبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم ورفع أصواتكم وشراءكم وبيعكم وإقامة حدودكم وجمّروها في جمعكم وضعوا على أبوابها المطاهر »‏.‏

ولأنّه لا يؤمن خروج النّجاسة من المحدود فيجب نفيه عن المسجد إذ بالضّرب قد ينشقّ الجلد فيسيل منه الدّم فيتنجّس المسجد‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏ حدود ف / 44 ‏)‏‏.‏

الأكل والنّوم في المسجد

21 - كره الحنفيّة الأكل في المسجد والنّوم فيه وقيل‏:‏ لا بأس للغريب أن ينام فيه‏,‏ وأمّا بالنّسبة للمعتكف فله أن يشرب ويأكل وينام في معتكفه لأنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لم يكن يأوي في اعتكافه إلّا إلى المسجد‏,‏ ولأنّه يمكن قضاء هذه الحاجة في المسجد فلا ضرورة إلى الخروج‏.‏

وأجاز المالكيّة إنزال الضّيف بمسجد بادية وإطعامه فيه الطّعام النّاشف كالتّمر لا إن كان مقذّراً كبطّيخ أو طبيخ فيحرم إلّا بنحو سفرة تجعل تحت الإناء فيكره‏,‏ ومثل مسجد البادية مسجد القرية الصّغيرة وأمّا التّصنيف في مسجد الحاضرة فيكره ولو كان الطّعام ناشفاً كما هو ظاهر كلامهم‏.‏

كما أجازوا النّوم فيه بقائلة أي نهاراً وكذا بليل لمن لا منزل له أو عسر الوصول إليه‏.‏

أمّا المعتكف‏:‏ فاستحبوا له أن يأكل في المسجد أو في صحنه أو في منارته وكرهوا أكله خارجه‏,‏ وأمّا النّوم فيه مدّة الاعتكاف فمن لوازمه‏,‏ إذ يبطل اعتكافه بعدم النّوم فيه‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ يجوز أكل الخبز والفاكهة والبطّيخ وغير ذلك في المسجد‏,‏ فقد روي عن عبد اللّه بن الحارث بن جزء الزبيديّ قال‏:‏ « كنّا نأكل على عهد النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في المسجد الخبز واللّحم »‏.‏

قال‏:‏ وينبغي أن يبسط شيئاً خوفاً من التّلوث ولئلّا يتناثر شيء من الطّعام فتجتمع عليه الهوام‏,‏ هذا إذا لم يكن له رائحة كريهة‏,‏ فإن كانت كالثوم والبصل والكرّاث ونحوه فيكره أكله فيه ويمنع آكله من المسجد حتّى يذهب ريحه‏,‏ فإن دخل المسجد أخرج منه لحديث‏:‏

« من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا أو ليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته »‏.‏

وقالوا أيضاً بجواز النّوم في المسجد فقد نصّ عليه الشّافعي في الأمّ‏,‏ فعن نافع أنّ عبد اللّه بن عمر أخبره‏:‏ « أنّه كان ينام وهو شاب أعزب لا أهل له في مسجد النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم »‏,‏ وأنّ عمرو بن دينار قال‏:‏ كنّا نبيت على عهد ابن الزبير في المسجد وأنّ سعيد بن المسيّب والحسن البصريّ وعطاءً والشّافعيّ رخّصوا فيه‏.‏

أمّا المعتكف فأكله ومبيته في مسجد اعتكافه‏,‏ وأجيز له أن يمضي إلى البيت ليأكل فيه‏,‏ ولا يبطل اعتكافه وهو المنصوص عليه عند الشّافعيّة لأنّ الأكل في المسجد ينقص من المروءة فلم يلزمه‏.‏

وعند الحنابلة قال ابن مفلح‏:‏ لا يجوز دخول المسجد للأكل ونحوه‏,‏ ذكره ابن تميم وابن حمدان‏,‏ وذكر في الشّرح والرّعاية وغيرهما بأنّ للمعتكف الأكل في المسجد وغسل يده في طست‏,‏ وذكر في الشّرح في آخر باب الأذان‏:‏ أنّه لا بأس بالاجتماع في المسجد والأكل فيه والاستلقاء فيه‏.‏

وقال ابن قدامة‏:‏ لا بأس أن يأكل المعتكف في المسجد ويضع سفرةً يسقط عليها ما يقع منه كيلا يلوّث المسجد‏.‏

الغناء والتّصفيق والرّقص في المسجد

22 - قال ابن مفلح‏:‏ يسن أن يصان المسجد عن الغناء فيه والتّصفيق‏.‏

وأمّا لعبُ الحبشة بِدَرَقهم وحرابهم في المسجد يوم عيد وجعل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يستر عائشة وهي تنظر إليهم وقوله لهم‏:‏ « دونكم يا بني أرفدة » ‏"‏ بنو أرفدة‏:‏ جنس من الحبشة يرقصون ‏"‏‏,‏ فقد قال النّووي في شرح مسلم‏:‏ فيه جواز اللّعب بالسّلاح ونحوه من آلات الحرب في المسجد‏,‏ ويلحق به ما في معناه من الأسباب المعينة على الجهاد‏,‏ وفيه بيان ما كان عليه صلّى اللّه عليه وسلّم من الرّأفة والرّحمة وحسن الخلق والمعاشرة بالمعروف‏.‏

ولمسلم وغيره‏:‏ « جاء حبشٌ يزفنون ‏"‏ أي يرقصون ‏"‏ في يوم عيد في المسجد »‏,‏ ونقل ابن مفلح عن شرح مسلم‏:‏ حمله العلماء على التّوثب بسلاحهم ولعبهم بحرابهم على قريب من هيئة الرّاقص لأنّ معظم الرّوايات إنّما فيها لعبهم بحرابهم فتتأوّل هذه اللّفظة‏.‏

وعن أبي هريرة قال‏:‏ « بينما الحبشة يلعبون عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بحرابهم إذ دخل عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه فأهوى إلى الحصباء يحصبهم فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم دعهم يا عمر »‏,‏ قال في شرح مسلم وهو محمول على أنّه ظنّ أنّ هذا لا يليق بالمسجد وأنّ النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام لم يعلم به‏.‏

قال المهلّب بن أبي صفرة شارح البخاريّ‏:‏ المسجد موضوع لأمر جماعة المسلمين‏,‏ وكل ما كان من الأعمال الّتي تجمع منفعة الدّين وأهله‏,‏ واللّعب بالحراب من تدريب الجوارح على معاني الحروب فهو جائز في المسجد وغيره‏.‏

الخروج من المسجد بعد الأذان

23 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة إلى أنّ من دخل مسجداً قد أذّن فيه يكره له أن يخرج منه حتّى يصلّي إلّا لعذر كانتقاض طهارة أو خوف فوات رفقة‏,‏ وقال الحنفيّة‏:‏ وكذلك إذا كان ممّن ينتظم به أمر جماعة‏,‏ لقوله عليه الصّلاة والسّلام‏:‏ « لا يخرج من المسجد بعد النّداء إلّا منافق إلّا رجل يخرج لحاجته وهو يريد الرّجعة إلى الصّلاة » وقوله صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ « من أدركه الأذان في المسجد ثمّ خرج لم يخرج لحاجة وهو لا يريد الرّجعة فهو منافق »‏,‏ وعن أبي الشّعثاء قال‏:‏ « كنّا مع أبي هريرة رضي اللّه عنه في المسجد‏,‏ فخرج رجل حين أذّن المؤذّن للعصر فقال أبو هريرة‏:‏ أمّا هذا فقد عصى أبا القاسم »‏.‏

وأضاف الحنفيّة أنّه إن كان قد صلّى وكانت الظهر أو العشاء فلا بأس بأن يخرج لأنّه أجاب داعي اللّه مرّةً‏,‏ إلّا إذا أخذ المؤذّن في الإقامة لأنّه يتّهم بمخالفة الجماعة عياناً‏,‏ وإن كانت العصر أو المغرب أو الفجر خرج وإن أذّن المؤذّن فيها لكراهة التّنفل بعدها‏.‏

وقالوا‏:‏ إنّ من دخل مسجداً قد أذّن فيه فإمّا أن يكون قد صلّى أو لا‏,‏ فإن لم يكن قد صلّى‏,‏ فإمّا أن يكون مسجد حيّه أو لا‏,‏ فإن كان مسجد حيّه كره له أن يخرج قبل الصّلاة لأنّ المؤذّن دعاه ليصلّي فيه‏,‏ وإن لم يكن مسجد حيّه فإن صلّى في مسجد حيّه فكذلك لأنّه صار بالدخول فيه من أهله‏,‏ وإن لم يصلّ فيه وهو يخرج لأن يصلّي فيه لا بأس به لأنّ الواجب عليه أن يصلّي في مسجد حيّه‏.‏

وإن كان قد صلّى وكانت الظهر أو العشاء فلا بأس بالخروج‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ يحرم الخروج من المسجد بعد الأذان بلا عذر أو نيّة رجوع لحديث عثمان بن عفّان رضي اللّه عنه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال‏:‏ « من أدركه الأذان في المسجد ثمّ خرج لم يخرج لحاجة وهو لا يريد الرّجعة فهو منافق »‏,‏ وقال صالح‏:‏ لا يخرج‏,‏ ونقل أبو طالب‏:‏ لا ينبغي‏,‏ ونقل ابن الحكم‏:‏ أحب إليّ أن لا يخرج‏,‏ وكرهه أبو الوفاء وأبو المعالي وقال ابن تميم‏:‏ يجوز للمؤذّن أن يخرج بعد أذان الفجر‏,‏ قال الشّيخ‏:‏ إن كان التّأذين للفجر قبل الوقت لم يكره الخروج من المسجد قبل الصّلاة‏.‏

صلاة النّوافل في المسجد

24 - ذهب الفقهاء إلى أنّ صلاة النّوافل في البيت أفضل منها في المسجد فقد قال النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ « عليكم بالصّلاة في بيوتكم فإنّ خير صلاة المرء في بيته إلّا المكتوبة » وقال‏:‏ « اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتّخذوها قبوراً »‏,‏ وقال‏:‏ « أفضل صلاة المرء في بيته إلّا المكتوبة »‏.‏

واستثنوا من ذلك ما شرعت له الجماعة كالتّراويح فإنّها تصلّى في المسجد‏,‏ واستثنى المالكيّة الرّواتب أيضاً‏.‏

الصّلاة على الجنازة في المسجد

25 - اختلف الفقهاء في جواز الصّلاة على الجنازة في المسجد فكرهها الحنفيّة والمالكيّة وأجازها الشّافعيّة والحنابلة‏.‏

والمعتمد عند الشّافعيّة أنّها مستحبّة فيه‏,‏ وقال الحنابلة بجوازها في المسجد وقيّد الحكم بأمن تلويث المسجد‏,‏ وإلّا كره‏.‏

وللتّفصيل انظر مصطلح ‏(‏ جنائز ف / 38 ‏)‏‏.‏

السّكن والبناء في المسجد

26 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه ليس لقيّم المسجد أن يجعله سكناً لأنّه إن فعل ذلك تسقط حرمته‏.‏

وإذا أراد أن يبني حوانيت في المسجد أو في فنائه لا يجوز له أن يفعل‏,‏ لأنّ الفناء تبع للمسجد‏.‏

وأجاز للمالكيّة لرجل تجرّد للعبادة السكنى بالمسجد وذلك ما لم يحجر فيه ويضيّق على المصلّين وإلّا منع‏,‏ لأنّ السكنى في المسجد على غير وجه التّجرد للعبادة ممتنعة‏,‏ لأنّها تغيير له عمّا حبّس له‏,‏ وليس ذلك للمرأة‏,‏ فيحرم عليها أو يكره ولو تجرّدت للعبادة لأنّها قد تحيض وقد يلتذ بها أحد من أهل المسجد فتنقلب العبادة معصيةً حتّى ولو كانت عجوزاً لا إرب للرّجال فيها‏,‏ قال الدسوقيّ‏:‏ لأنّ كلّ ساقطة لها لاقطة‏.‏

الاعتكاف في المسجد

27 - أجمع الفقهاء على أنّه لا يصح للرّجل أن يعتكف إلّا في المسجد لقوله تعالى‏:‏

‏{‏ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ‏}‏‏,‏ « ولأنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لم يعتكف إلّا في المسجد »‏.‏

وأمّا المرأة فقد ذهب الجمهور إلى أنّها كالرّجل لا يصح أن تعتكف إلّا في المسجد‏,‏ ما عدا الحنفيّة فإنّهم يقولون إنّها تعتكف في مسجد بيتها لأنّه هو موضع صلاتها‏,‏ ولو اعتكفت في مسجد الجماعة جاز مع الكراهة التّنزيهيّة‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏ اعتكاف ف / 14 وما بعدها ‏)‏‏.‏

عقد النّكاح في المسجد

28 - استحبّ جمهور الفقهاء عقد النّكاح في المسجد للبركة‏,‏ ولأجل شهرته فعن عائشة رضي اللّه عنها قالت‏:‏ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ « أعلنوا هذا النّكاح واجعلوه في المساجد واضربوا عليه بالدفوف »‏.‏

وأضاف المالكيّة في إجازتهم لعقد النّكاح في المسجد أن يكون بمجرّد الإيجاب والقبول من غير ذكر شروطٍ ولا رفع صوت أو تكثير كلام وإلّا كره فيه‏.‏

وزاد الحنفيّة في المختار عندهم‏:‏ أنّ الزّفاف به لا يكره إذا لم يشتمل على مفسدة دينيّة فإن اشتمل عليها كره فيه‏.‏

البصاق في المسجد

29 - لا خلاف بين الفقهاء في استحباب صيانة المسجد عن البصقة فيه إذ هي فيه خطيئة وكفّارتها دفنها لما فيها من تقزز النّاس منها‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏ بصاق ف / 4 ‏)‏‏.‏

البيع في المسجد

30 - ذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّه يكره لغير المعتكف البيع والشّراء في المسجد لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ « جنّبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وشراءكم وبيعكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم وسلّ سيوفكم واتّخذوا على أبوابها المطاهر وجمّروها في الجمع »‏.‏

وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه « أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم نهى عن الشّراء والبيع في المسجد وأن تنشد فيه ضالّة وأن ينشد فيه شعر »‏,‏ وأمّا بالنّسبة للمعتكف فإنّه لا بأس أن يبيع ويبتاع في المسجد ما كان من حوائجه الأصليّة من غير أن يحضر السّلعة لأنّه قد يحتاج إلى ذلك بأن لا يجد من يقوم بحاجته‏,‏ إلّا أنّهم قالوا يكره إحضار السّلعة للبيع والشّراء‏,‏ لأنّ المسجد محرّر عن حقوق العباد وفيه شغله بها‏.‏

وكذلك الحال عند المالكيّة في كراهة البيع والشّراء في المسجد بغير سمسرة لما روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال‏:‏ « إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا لا أربح اللّه تجارتك »‏.‏

فإن كان بسمسرة أي بمناداة على السّلعة بأن جلس صاحب السّلعة في المسجد وأتاه المشتري يقلّبها وينظر فيها ويعطي فيها ما يريد من ثمن حرم لجعل المسجد سوقاً‏,‏ ثمّ إنّ محلّ الكراهة إذا جعل المسجد محلاً للبيع والشّراء بأن أظهر السّلعة فيه معرضاً لها للبيع‏,‏ وأمّا مجرّد عقدهما فلا يكره‏.‏

والمختار عند الشّافعيّة القول بكراهة البيع والشّراء فيه‏,‏ لما روى أبو هريرة رضي اللّه عنه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال‏:‏ « إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا لا أربح اللّه تجارتك »‏.‏

نشدان الضّالّة في المسجد

31 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة والشّافعيّة في المشهور عندهم إلى كراهة نشدان الضّالّة في المسجد فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه « أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم نهى عن الشّراء والبيع في المسجد أو ينشد فيه ضالّة أو ينشد فيه شعر »‏.‏

وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال‏:‏ سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول‏:‏ « إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا لا أربح اللّه تجارتك وإذا رأيتم من ينشد فيه ضالّةً فقولوا لا ردّها اللّه عليك »‏,‏ وعنه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال‏:‏ « من سمع رجلاً ينشد ضالّةً في المسجد فليقل لا ردّها اللّه عليك فإنّ المساجد لم تبن لهذا »‏.‏

صلاة العيدين في المسجد

31 - ذهب الحنفيّة في الأصحّ والحنابلة إلى أنّ صلاة العيدين سنّة في المصلّى - والمراد الفضاء والصّحراء - وقال المالكيّة‏:‏ إنّها مندوبة‏,‏ لحديث أبي سعيد رضي اللّه عنه‏:‏

« كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلّى »‏,‏ وكذا الخلفاء بعده وكرهوا صلاتهما في المسجد لغير ضرورة داعية إلى الصّلاة فيه‏,‏ وذلك كقيام عذر يمنع الخروج إلى المصلّى من مطر أو وحل أو خوف من لصوصٍ أو غيره‏,‏ فإن وجد شيء من هذه الأعذار ومثيلاتها فإنّها تصلّى في المسجد الجامع بلا كراهة لوجود الضّرورة الدّاعية لذلك‏,‏ لما روى أبو هريرة رضي اللّه عنه قال‏:‏ « أصابنا مطر في يوم عيد فصلّى بنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في المسجد »‏,‏ وروي أنّ عمر وعثمان رضي اللّه عنهما صلّيا في المسجد في المطر‏,‏ وأمّا بمكّة فتندب صلاة العيدين بالمسجد الحرام لمشاهدة الكعبة‏,‏ وهي عبادة لخبر‏:‏ « إنّ اللّه تعالى ينزّل كلّ يوم وليلة عشرين ومائةً رحمةً ينزل على هذا البيت ستون للطّائفين وأربعون للمصلّين وعشرون للنّاظرين »‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ إنّ المسجد إن كان واسعاً فهو أفضل من المصلّى لأنّ الأئمّة لم يزالوا يصلون صلاة العيد بمكّة في المسجد‏,‏ ولأنّ المسجد أشرف وأنظف‏,‏ وإن صلّى في الصّحراء فلا بأس‏,‏ لأنّه إذا ترك المسجد وصلّى في الصّحراء لم يكن عليهم ضرر‏,‏ وقيل‏:‏ فعلها في الصّحراء أفضل‏,‏ لأنّها أرفق بالرّاكب وغيره‏,‏ إلّا لعذر كمطر ونحوه فالمسجد أفضل‏,‏ وإن كان المسجد ضيّقاً فصلّى فيه ولم يخرج إلى المصلّى كره ذلك لتأذّي النّاس بالزّحام‏,‏ وربّما فات بعضهم الصّلاة‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ والحكمة في صلاة العيدين في المصلّى هي من أجل المباعدة بين الرّجال والنّساء‏,‏ لأنّ المساجد وإن كبرت يقع الازدحام فيها وفي أبوابها بين الرّجال والنّساء دخولاً وخروجاً‏,‏ فتتوقّع الفتنة في محلّ العبادة‏.‏

33 - وهل للمصلّى حكم المسجد‏:‏ سئل الغزالي من الشّافعيّة في فتاويه عن المصلّى الّذي بني لصلاة العيد خارج البلد فقال‏:‏ لا يثبت له حكم المسجد في الاعتكاف ومكث الجنب وغيره من الأحكام‏,‏ لأنّ المسجد هو الّذي أعدّ لرواتب الصّلاة وعيّن لها‏,‏ حتّى لا ينتفع به في غيرها‏,‏ وموضع صلاة العيد معد للاجتماعات ولنزول القوافل ولركوب الدّوابّ ولعب الصّبيان ولم تجر عادة السّلف بمنع شيء من ذلك فيه‏,‏ ولو اعتقدوه مسجداً لصانوه عن هذه الأسباب‏,‏ ولقصد لإقامة سائر الصّلوات‏,‏ وصلاة العيد تطوع وهو لا يكثر تكرره‏,‏ بل يبنى لقصد الاجتماع والصّلاة تقع فيه بالتّبع‏.‏

صلاة النّساء في المساجد

34 - ذهب الفقهاء إلى أنّه يستحب للنّساء أن تكون صلاتهنّ في بيوتهنّ‏,‏ فذلك لهنّ أفضل من صلاتهنّ في المسجد‏,‏ فعن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال‏:‏ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ « لا تمنعوا نساءكم المساجد وبيوتهنّ خير لهنّ »‏,‏ فإن أرادت المرأة حضور المسجد مع الرّجال‏:‏ فإن كانت شابّةً أو كبيرةً يشتهى مثلها كره لها الحضور وإن كانت عجوزاً لا تشتهى لم يكره لها‏,‏ لما روي عن ابن مسعود رضي اللّه عنه قال‏:‏ ‏"‏ والّذي لا إله غيره ما صلّت امرأة صلاةً قط خير لها من صلاة تصلّيها في بيتها إلّا أن يكون المسجد الحرام أو مسجد الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم إلّا عجوزاً في منقلها ‏"‏‏,‏ وذلك حيث تقل الرّغبة فيها‏,‏ ولذا يجوز لها حضور المساجد كما في العيد‏.‏

وإن كانت شابّةً غير فارهة في الجمال والشّباب جاز لها الخروج لتصلّي في المسجد‏,‏ بشرط عدم الطّيب‏,‏ وأن لا يخشى منها الفتنة‏,‏ وأن تخرج في رديء ثيابها‏,‏ وأن لا تزاحم الرّجال‏,‏ وأن تكون الطّريق مأمونةً من توقّع المفسدة‏,‏ فإن لم تتحقّق فيها تلك الشروط كره لها الصّلاة فيه‏,‏ فقد كانت النّساء يباح لهنّ الخروج إلى الصّلوات‏,‏ ثمّ لمّا صار سبباً للوقوع في الفتنة منعن عن ذلك‏,‏ جاء في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ‏}‏‏,‏ أنّها نزلت في شأن النّسوة حيث كان المنافقون يتأخّرون للاطّلاع على عوراتهنّ‏,‏ وقول عائشة رضي اللّه عنها في الصّحيح‏:‏ « لو أدرك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ما أحدث النّساء لمنعهنّ كما منعت نساء بني إسرائيل »‏,‏ وعن عائشة رضي اللّه عنها ترفعه « أيها النّاس أنهوا نساءكم عن لبس الزّينة والتّبختر في المساجد فإنّ بني إسرائيل لم يلعنوا حتّى لبس نساؤُهم الزّينة وتبختروا في المساجد »‏,‏ وفي حديث أمّ سلمة رضي اللّه عنها‏:‏ « خير مساجد النّساء قعر بيوتهنّ »‏.‏

دخول الجنب والحائض والنفساء في المسجد وعبورهم له

35 - قال الحنفيّة والمالكيّة‏:‏ إنّه يحرم على الجنب والحائض والنفساء دخول المسجد لما روت عائشة رضي اللّه عنها قالت‏:‏ « جاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد فقال وجّهوا هذه البيوت عن المسجد ثمّ دخل ولم يصنع القوم شيئاً رجاء أن تنزل فيهم رخصة فخرج عليهم فقال وجّهوا هذه البيوت عن المسجد فإنّي لا أحل المسجد لحائض ولا جنب »‏.‏

وقال الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ يحرم عليهم المكث في المسجد‏,‏ كما يحرم على الحائض والنفساء العبور فيه إن خيف تلويث المسجد وإن لم يخف التّلويث جاز العبور‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏ حيض ف / 41‏,‏ وجنابة ف / 18‏,‏ ودخول ف / 6 ‏)‏‏.‏

حيض المرأة وجنابة الرّجل في المسجد

36 - اتّفق الفقهاء على أنّه ليس للمرأة إذا حاضت‏,‏ والرّجل إذا أجنب‏,‏ وهما في المسجد أن يبقيا فيه وهما على ما هما عليه‏,‏ وعليهما أن يخرجا منه حتّى يطهر كل منهما‏,‏ فقد روت عائشة رضي اللّه عنها قول النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ « لا أحل المسجد لحائض ولا جنب »‏.‏

ونصّ الحنفيّة على أنّ الاعتكاف لا يفسد بالاحتلام‏,‏ ثمّ إن أمكنه الاغتسال في المسجد من غير أن يتلوّث المسجد فلا بأس به‏,‏ وإلّا فيخرج ويغتسل ويعود إلى المسجد‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ إذا حاضت المرأة وهي في مسجد اعتكافها - قبل إتمام ما نوته أو نذرته - خرجت وجوباً منه وعليها حرمة الاعتكاف‏,‏ فلا تفعل ما لا يفعله المعتكف من جماع أو مقدّماته أو غير ذلك‏,‏ فإذا طهرت من حيضها رجعت فوراً لمعتكفها للبناء‏,‏ والمراد بالبناء‏:‏ الإتيان ببدل ما حصل فيه المانع وتكميل ما نذرته ولو أخّرت رجوعها إليه ولو ناسيةً أو مكرهةً بطل اعتكافها وعليها أن تستأنفه‏.‏

وإذا أجنب الرّجل في المسجد وكان معتكفاً فسد اعتكافه وابتدأه بعد أن يغتسل‏,‏ إذ يحرم على المعتكف من أهله باللّيل ما يحرم عليه منهنّ بالنّهار‏,‏ ولا يحل لرجل أن يمسّ امرأته وهو معتكف‏,‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ‏}‏‏.‏

ويقول الشّافعيّة‏:‏ إذا طرأ الحيض وجب الخروج‏,‏ وكذا الجنابة إن تعذّر الغسل في المسجد لحرمة المكث فيه على الحائض والجنب‏,‏ فلو أمكن الغسل فيه جاز الخروج له ولا يلزم‏,‏ بل يجوز الغسل فيه ويلزمه أن يبادر به كيلا يبطل تتابع اعتكافه‏,‏ ولا يحسب زمن الحيض ولا الجنابة في المسجد من الاعتكاف لمنافاتهما له‏.‏

وقال الزّركشي‏:‏ إذا أجنب الرّجل في المسجد أستحبّ له أن يراعي أقرب الطرق إلى الخروج‏.‏

ويقول الحنابلة‏:‏ إنّه على الحائض المعتكفة أن تتحيّض في خباء في رحبة المسجد إن كان له رحبة وأمكن ذلك بلا ضرر وإلّا ففي بيتها‏,‏ فإن طهرت وكان الاعتكاف منذوراً رجعت فأتمّت اعتكافها وقضت ما فاتها ولا كفّارة عليها‏.‏

وقال ابن مفلح‏:‏ وفي جواز مبيت الجنب فيه مطلقاً بلا ضرورة روايتان‏,‏ وقيل‏:‏ يجوز إن كان مسافراً أو مجتازاً‏,‏ وإلّا فلا‏.‏

وإذا خاف الجنب على نفسه أو ماله‏,‏ أو لم يمكنه الخروج من المسجد‏,‏ أو لم يجد مكاناً غيره‏,‏ أو لم يمكنه الغسل ولا الوضوء تيمّم ثمّ أقام في المسجد‏,‏ وإذا توضّأ الجنب فله اللبث في المسجد‏,‏ وقال أكثر أهل العلم‏:‏ لا يجوز له ذلك‏.‏

تخطّي الرّقاب في المسجد

37 - لتخطّي الرّقاب في المسجد أحكام تختلف بالنّظر إلى المتخطّي إن كان إماماً أو غيره‏,‏ أو كان للصّلاة أو لغيرها‏,‏ ومع وجود فرجة أو عدم وجودها‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏ تخطّي الرّقاب ف / 2 وما بعدها ‏)‏‏.‏

وقف المسجد والوقف عليه

38 - أجمع الفقهاء على جواز وقف المسجد والوقف عليه ممّن كان من أهل التّبرع‏,‏ لأنّه قربة وعلى جهة بر‏,‏ إلّا أنّهم وضعوا قواعد لزوال ملك واقفه عنه ولزومه‏.‏

وفي هذا يقول الحنفيّة‏:‏ إنّ من بنى مسجداً لم يزل ملكه عنه حتّى يفرزه عن ملكه بطريقه‏,‏ ويأذن للنّاس بالصّلاة فيه‏,‏ فإذا صلّى فيه واحد زال عن ملكه عند أبي حنيفة ومحمّد في إحدى روايتين عنهما‏,‏ وفي الأخرى‏:‏ لا يزول إلّا بصلاة جماعة‏,‏ وعند أبي يوسف يزول ملكه عنه بمجرّد قوله‏:‏ جعلته مسجداً‏,‏ لأنّ التّسليم عنده ليس بشرط‏,‏ كما يصح الوقف عليه والمسجد جعل للّه تعالى على الخلوص محرّراً عن أن يملك العباد فيه شيئاً غير العبادة فيه وما كان كذلك خرج عن ملك الخلق أجمعين‏.‏

ومتى زال ملكه عنه ولزم فليس له أن يرجع فيه ولا يبيعه ولا يورث عنه‏,‏ لأنّه تجرّد عن حقّ العباد وصار خالصاً للّه تعالى‏,‏ وهذا لأنّ الأشياء كلّها للّه وإذا أسقط العبد ما ثبت له من الحقّ رجع إلى أصله فانقطع تصرفه عنه كما في الإعتاق‏.‏

ويقول المالكيّة‏:‏ إنّ من بنى مسجداً‏,‏ وخلّى بينه وبين النّاس للصّلاة فيه صحّ وقفه ولزم‏,‏ فإذا لم يخل الواقف بينه وبين النّاس بطل وقفه‏,‏ كما يصح الوقف عليه‏.‏

ويقول الشّافعيّة‏:‏ إنّ من بنى مسجداً وصلّى فيه‏,‏ أو أذن للنّاس بالصّلاة‏,‏ وقال‏:‏ وقفته مسجداً للصّلاة فيه صحّ وقفه‏,‏ وإن لم يقل ذلك لم يصر مسجداً‏,‏ لأنّه إزالة ملكٍ على وجه القربة فلم يصحّ من غير قول مع القدرة كالعتق‏.‏

فإذا صحّ لزم وانقطع تصرف الواقف فيه‏,‏ لما روى ابن عمر رضي اللّه عنهما أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال لعمر رضي اللّه عنه‏:‏ « إن شئت حبست أصلها وتصدّقت بها قال فتصدّق بها عمر إنّه لا يباع ولا يوهب ولا يورث »‏,‏ ويزول ملكه عن العين في الصّحيح عندهم‏.‏

ويقول الحنابلة‏:‏ إنّ من بنى مسجداً وأذن للنّاس بالصّلاة فيه إذناً عاماً كان لازماً ومؤبّداً لا يباع ولا يوهب ولا يورث‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏ وقف ‏)‏‏.‏

الوصيّة للمسجد

39 - الوصيّة للمسجد أجازها الفقهاء ويصرف الموصى به في مصالحه كوقوده وعمارته‏,‏ لأنّه مقصود النّاس بالوصيّة له‏.‏

وقال الدسوقي‏:‏ إن اقتضى العرف صرفها للمجاورين كالجامع الأزهر صرف لهم لا لمرمّته وحصره‏,‏ ونحوهما‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏ وصيّة ‏)‏‏.‏

دخول الذّمّيّ المسجد

40 - يرى الحنفيّة أنّه لا بأس بدخول الذّمّيّ المسجد الحرام أو غيره من المساجد‏,‏ لما روي « أنّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنزل وفد ثقيف في المسجد وكانوا كفّاراً وقال إنّه ليس على الأرض من أنجاس النّاس شيء إنّما أنجاس النّاس على أنفسهم »‏,‏ وتأويل الآية أنّهم لا يدخلون مستولين أو طائفين عراةً كما كانت عادتهم‏.‏

ومنع المالكيّة دخول الذّمّيّ المسجد‏,‏ وإن أذن له مسلم في الدخول ما لم تدع ضرورة لدخوله كعمارة وإلّا فلا‏.‏

وقال الزّركشي‏:‏ يمكّن الكافر من دخول المسجد واللبث فيه وإن كان جنباً‏,‏ فإنّ الكفّار كانوا يدخلون مسجده صلّى اللّه عليه وسلّم ولا شكّ أنّ فيهم الجنب‏.‏

وأطلق الرّافعي والنّووي رحمهما اللّه أنّه يجوز للكافر أن يدخل مساجد غير الحرم بإذن المسلم‏,‏ فإذا لم يأذن له المسلم في ذلك فليس له الدخول على الصّحيح‏,‏ فإن دخل بغير إذن عزّر إلّا أن يكون جاهلاً بتوقّفه على الإذن فلا يعزّر‏.‏

ويرى الحنابلة‏:‏ أنّه ليس للذّمّيّ دخول مساجد الحلّ ‏"‏ وهي كل مسجد خارج نطاق حرم مكّة‏"‏ بغير إذن المسلمين‏,‏ وفي قول آخر لهم دخوله‏.‏

وقف الذّمّيّ على المسجد

41 - اختلف الفقهاء في وقف الذّمّيّ على المسجد‏,‏ فذهب الجمهور إلى صحّته لعموم أدلّة الوقف‏,‏ ومنعه المالكيّة‏.‏

والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏ وقف ‏)‏‏.‏

الزّكاة للمسجد

42 - ذهب الفقهاء إلى أنّه لا يجوز صرف الزّكاة في بناء المسجد‏,‏ لانعدام التّمليك‏.‏ وللتّفصيل انظر مصطلح ‏(‏ زكاة ف / 181 ‏)‏‏.‏

ونقل الإمام فخر الدّين الرّازيّ عن القفّال في تفسيره آية الزّكاة عن بعض الفقهاء أنّهم أجازوا صرف الصّدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الحصون وعمارة المساجد لأنّ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ ‏}‏ عام في الكلّ‏.‏

الصّدقة على السّائلين في المسجد

43 - قال الزّركشي‏:‏ لا بأس أن يعطى السّائل في المسجد شيئاً لحديث عبد الرّحمن بن أبي بكر رضي اللّه عنهما قال‏:‏ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ « هل منكم أحد أطعم اليوم مسكيناً فقال أبو بكر دخلت المسجد فإذا أنا بسائل يسأل فوجدت كسرة خبزٍ في يد عبد الرّحمن فأخذتها منه فدفعتها إليه »‏.‏

ونقل الزّركشي عن كتاب الكسب لمحمّد بن الحسن أنّ المختار أنّه إن كان السّائل لا يتخطّى رقاب النّاس ولا يمر بين يدي المصلّي‏,‏ ولا يسأل النّاس إلحافاً فلا بأس بالسؤال والإعطاء‏,‏ لأنّ السؤّال كانوا يسألون على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في المسجد حتّى يروى أنّ علياً رضي اللّه عنه تصدّق بخاتمه وهو في الركوع‏.‏ فمدحه اللّه بقوله‏:‏ ‏{‏ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ‏}‏‏,‏ وإن كان يتخطّى رقاب النّاس ويمر بين يدي المصلّي فيكره إعطاؤُه‏,‏ لأنّه إعانة له على أذى النّاس حتّى قيل‏:‏ هذا فلس واحد يحتاج إلى سبعين فلساً لكفّارته‏.‏

وقال ابن مفلح‏:‏ قال بعض أصحابنا يكره السؤال والتّصدق في المساجد‏,‏ ومرادهم - واللّه أعلم - التّصدق على السؤّال لا مطلقاً‏,‏ وقطع به ابن عقيل‏,‏ وأكثرهم لم يذكر الكراهة‏,‏ وقد نصّ أحمد رحمه اللّه على أنّ من سأل قبل خطبة الجمعة ثمّ جلس لها تجوز الصّدقة عليه‏,‏ وكذلك إن تصدّق على من لم يسأل أو سأل الخطيب الصّدقة على إنسان جاز‏.‏

ونقل ابن مفلح عن البيهقيّ أنّ عليّ بن محمّد بن بدر قال‏:‏ صلّيت يوم الجمعة فإذا أحمد بن حنبل بقرب منّي‏,‏ فقام سائل فسأل فأعطاه أحمد قطعةً‏.‏

وكره الحنفيّة التّخطّي للسؤال فلا يمر السّائل بين يدي المصلّي ولا يتخطّى رقاب النّاس ولا يسأل النّاس إلحافاً إلّا إذا كان لأمر لا بدّ منه‏.‏

استبدال المسجد

44 - ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم جواز استبدال المسجد‏.‏

قال الحنفيّة‏:‏ لو باع كرماً فيه مسجد قديم إن كان عامراً يفسد البيع وإلّا لا‏,‏ ولو اشترى داراً بطريقها ثمّ أستحقّ الطّريق‏:‏ إن شاء أمسكها بحصّتها‏,‏ وإن شاء ردّها إن كان الطّريق مختلطاً بها‏,‏ وإن كان متميّزاً لزمه الدّار بحصّتها‏,‏ ومعنى اختلاطه كونه لم يذكر له الحدود‏,‏ وفي المنتقى‏:‏ إذا لم يكن الطّريق محدوداً فسد البيع‏,‏ والمسجد الخاص كالطّريق المعلوم ولو كان مسجد جماعة فسد البيع في الكلّ‏,‏ وفي بعض النسخ ولو كان مسجد جامع فسد في الكلّ‏,‏ وكذا لو كان مهدوماً أو أرضاً ساحةً لا بناء فيها بعد أن يكون أصله مسجداً جامعاً كذا في المجتبى‏,‏ والظّاهر أنّ هذا متفرّع على قول أبي يوسف في المسجد‏:‏ إلّا إن كان من ريعه معلوم يعاد به‏,‏ ولو باع قريةً وفيها مسجد واستثني المسجد جاز البيع‏.‏

وفي هذا يقول المالكيّة‏:‏ أمّا المسجد فلا خلاف في عدم جواز بيعه مطلقاً سواء خرب أم لا‏,‏ وإن انتقلت العمارة عن محلّه‏,‏ ومثل عدم جواز بيع المسجد نقضه‏,‏ فلا يجوز بيع نقض المسجد بمعنى أنقاضه‏.‏

وإذا كان المسجد محفوفاً بوقوف فافتقر إلى توسعة جاز أن يبتاع منها ما يوسّع به‏,‏ يعني أنّ المسجد إذا كان محفوفاً بوقوف وكان هذا المسجد في حاجة إلى توسعة ولم يوجد ما يوسّعه إلّا ببيع بعض تلك الأوقاف أو كلّها فإنّه يجوز أن تباع لتوسعة المسجد‏,‏ وعلى هذا فإنّه لا يجوز بيع الحبس ولو صار خرباً إلّا في هذه المسألة‏,‏ وهي ما إذا ضاق المسجد بأهله‏,‏ أو احتاج إلى توسعة‏,‏ وبجانبه عقار حبس أو ملكٍ فإنّه يجوز بيع الحبس لأجل توسعة المسجد‏,‏ وإن أبى صاحب الحبس أو صاحب الملك بيع ذلك فالمشهور أنّهما يجبران على بيع ذلك ويشترى بثمن الحبس ما يجعل حبساً كالأوّل‏,‏ ومثل توسعة المسجد توسعة طريق المسلمين ومقبرتهم‏.‏

وفي الموّاق‏:‏ قال سحنون‏:‏ لم يجز أصحابنا بيع الحبس بحال إلّا داراً بجوار مسجد أحتيج أن تضاف إليه ليتوسّع بها‏,‏ فأجازوا بيع ذلك ويشترى بثمنها دار تكون حبساً‏,‏ وقد أدخل في مسجد النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم دور محبسة كانت تليه‏,‏ وعن مالكٍ أنّ ذلك إنّما يجوز في مساجد الجوامع إن أحتيج إلى ذلك لا في مساجد الجماعات‏,‏ إذ ليست الضّرورة فيها كالجوامع‏.‏

ويقول الشّافعيّة‏:‏ لو انهدم مسجد وتعذّرت إعادته لم يبع بحال لإمكان الصّلاة فيه في الحال‏,‏ ويقول القليوبي تعليقاً على قول صاحب المنهاج ‏"‏ وتعذّرت إعادته ‏"‏‏:‏ أي بنقضه‏,‏ ثمّ إن رجي عوده حفظ نقضه وجوباً - ولو بنقله إلى محل آخر إن خيف عليه لو بقي - وللحاكم هدمه ونقل نقضه إلى محل أمين إن خيف على أخذه لو لم يهدم‏,‏ فإن لم يرج عوده بني به مسجد آخر لا نحو مدرسة‏,‏ وكونه بِقُرْبِهِ أولى‏,‏ فإن تعذّر المسجد بني به غيره‏.‏

وأمّا غلّته الّتي ليس لأرباب الوظائف وحصره وقناديله فكنقضه وإلّا فهي لأربابها‏,‏ وإن تعذّرت‏,‏ لعدم تقصيرهم‏.‏

وعند الحنابلة‏:‏ إذا تعطّلت منافع المسجد بخراب أو غيره‏,‏ كخشب تشعّث وخيف سقوطه‏,‏ ولم يوجد ما يعمر به‏,‏ فيباع ويصرف ثمنه في مثله أو بعض مثله‏,‏ نصّ عليه أحمد قال‏:‏ وإذا كان في المسجد خشبات لا قيمة لها جاز بيعها وصرف ثمنها عليه‏,‏ وقال‏:‏ يحوّل المسجد خوفاً من اللصوص وإذا كان موضعه قذراً‏,‏ قال أبو بكر المعروف بالخلّال‏:‏ وروي عنه أنّ المساجد لا تباع إنّما تنقل آلتها‏,‏ قال‏:‏ وبالقول الأوّل أقول‏,‏ لإجماعهم على جواز بيع الفرس الحبيس إذا لم يصلح للغزو‏,‏ فإن لم يبلغ ثمن الفرس أعين به في فرس حبيس‏,‏ لأنّ الوقف مؤبّد‏,‏ فإذا لم يمكن تأبيده بعينه استبقينا الفرس - وهو الانتفاع على الدّوام - في عين أخرى واتّصال الأبدال يجري مجرى الأعيان وجمودنا على العين مع تعطلها تضييع للغرض كذبح الهدي إذا أعطب في موضعه مع اختصاصه بموضع آخر‏,‏ فلمّا تعذّر تحصيل الغرض بالكلّيّة استوفى منه ما أمكن‏,‏ قاله ابن عقيل وغيره‏.‏

وبمجرّد شراء البدل يصير وقفاً‏,‏ وكذا حكم المسجد لو ضاق على أهله ولم تمكن توسعته في موضعه‏,‏ أو خربت محلّته أو أستقذر موضعه‏,‏ قال القاضي‏:‏ يعني إذا كان ذلك يمنع من الصّلاة فيه فيباع‏.‏

ويجوز نقل آلته وحجارته لمسجد آخر احتاج إليها‏,‏ وذلك أولى من بيعه لما روي أنّ عمر رضي اللّه عنه كتب إلى سعد لمّا بلغه أنّ بيت المال الّذي في الكوفة نقب أن أنقل المسجد الّذي بالتّمّارين واجعل بيت المال في قبلة المسجد فإنّه لن يزال في المسجد مصل‏,‏ وكان هذا بمشهد من الصّحابة ولم يظهر خلافه فكان كالإجماع‏.‏

بيع المسجد أو أنقاضه دون أرضه

45 - جمهور الفقهاء على أنّ المسجد لا يباع‏,‏ وفي هذا يقول الحنفيّة‏:‏ من اتّخذ أرضه مسجداً واستوفى شروط صحّة وقفه لم يكن له أن يرجع فيه ولا يبيعه ولا يورث عنه‏,‏ لأنّه تجرّد عن حقّ العباد وصار خالصاً للّه تعالى‏,‏ وهذا لأنّ الأشياء كلّها للّه تعالى وإذا أسقط العبد ما ثبت له من الحقّ رجع إلى أصله فانقطع تصرفه عنه كما في الإعتاق‏.‏

ولو خرب ما حول المسجد واستغني عنه يبقى مسجداً عند أبي يوسف لأنّه إسقاط منه فلا يعود إلى ملكه‏,‏ وعند محمّد يعود إلى ملك الباني ‏"‏ الواقف ‏"‏ إن كان حيّاً أو إلى وارثه بعد موته‏,‏ وإن لم يعرف بانيه ولا ورثته كان لهم بيعه والاستعانة بثمنه في بناء مسجد آخر لأنّه عيّنه لنوع قربة‏,‏ وقد انقطعت‏,‏ فصار كحصير المسجد وحشيشه إذا أستغني عنه‏,‏ إلّا أنّ أبا يوسف يقول في الحصر والحشيش إنّه ينقل إلى مسجد آخر‏.‏

ولو ضاق المسجد وبجنبه أرض وقف عليه أو حانوت جاز أن يؤخذ ويدخل فيه‏,‏ ولو كان ملك رجل أخذ بالقيمة كرهاً‏,‏ فلو كان طريقاً للعامّة أدخل بعضه بشرط أن لا يضرّ بالطّريق‏.‏ وفي كتاب الكراهية من الخلاصة عن الفقيه أبي جعفر عن هشام عن محمّد أنّه يجوز أن يجعل شيء من الطّريق مسجداً‏,‏ أو يجعل شيء من المسجد طريقاً للعامّة‏,‏ يعني إذا احتاجوا إلى ذلك‏.‏

ولأهل المسجد أن يجعلوا الرّحبة مسجداً وكذا على القلب‏,‏ ويحوّلوا الباب أو يحدثوا له باباً آخر‏,‏ ولو اختلفوا ينظر أيهما أكثر ولايةً له ذلك‏.‏

ولهم أن يهدموه ويجدّدوه‏,‏ وليس لمن ليس من أهل المحلّة ذلك‏,‏ وكذا لهم أن يضعوا الحباب ويعلّقوا القناديل ويفرشوا الحصر كل ذلك من مال أنفسهم‏,‏ وأمّا من مال الوقف فلا يفعل غير المتولّي إلّا بإذن القاضي‏.‏

ومن كتاب التّجنيس‏:‏ قيّم المسجد إذا أراد أن يبني حوانيت في المسجد أو في فنائه لا يجوز له أن يفعل‏,‏ لأنّه إذا جعل المسجد سكناً تسقط حرمة المسجد‏,‏ وأمّا الفناء فلأنّه تبع للمسجد‏,‏ ولو خرب ما حول المسجد واستغنى عنه أي استغنى عن الصّلاة فيه أهل تلك المحلّة أو القرية بأن كان في قرية فخربت وحوّلت مزارع يبقى مسجداً على حاله عند أبي يوسف وهو قول أبي حنيفة‏.‏

ويقول المالكيّة‏:‏ لا يجوز بيع المسجد مطلقاً سواء خرب أم لا ولو انتقلت العمارة عن محلّه‏,‏ ومثل عدم جواز بيع المسجد نقضه‏,‏ فلا يجوز بيع نقض المسجد بمعنى أنقاضه‏.‏ وفي القرطبيّ‏:‏ لا يجوز نقض المسجد ولا بيعه ولا تعطيله وإن خربت المحلّة‏.‏

ويقول الشّافعيّة‏:‏ من وقف مسجداً فخرب المكان وانقطعت الصّلاة فيه لم يعد إلى الملك ولم يجز التّصرف فيه‏,‏ لأنّ ما زال الملك فيه لحقّ اللّه تعالى ولا يعود إلى الملك بالاختلال كما لو أعتق عبداً ثمّ زمن‏.‏

وإن وقف جذوعاً على مسجد فتكسّرت ففيه وجهان أحدهما‏:‏ لا يجوز بيعه‏,‏ والثّاني‏:‏ يجوز بيعه‏,‏ لأنّه لا يرجى منفعته‏,‏ فكان بيعه أولى من تركه بخلاف المسجد‏,‏ فإنّ المسجد يمكن الصّلاة فيه مع خرابه‏,‏ وقد يعمر الموضع فيصلّى فيه‏.‏

وإن وقف شيئاً على مسجد فاختلّ المكان حفظ الارتفاع ‏"‏ الغلّة ‏"‏ ولا يصرف إلى غيره لجواز أن يرجع كما كان‏.‏

ويقول الحنابلة بتحريم بيع المسجد إلّا أن تتعطّل منافعه بخراب أو غيره كخشب تشعّث وخيف سقوطه ولم يوجد ما يعمر به‏,‏ فيباع ويصرف ثمنه في مثله أو بعض مثله نصّ عليه أحمد‏,‏ قال‏:‏ وإذا كان في المسجد خشبات لها قيمة جاز بيعها وصرف ثمنها عليه‏.‏

غرس الشّجر في المسجد والزّرع فيه وحفر بئر فيه

46 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يجوز غرس الأشجار في المسجد إلّا إذا كان ذا نزٍّ‏,‏ والأسطوانات لا تستقر به‏,‏ فيجوز لتشرب ذلك الماء فيحصل بها النّفع‏,‏ ولا يحفر فيه بئر‏,‏ ولو كانت قديمةً - كبئر زمزم - تركت‏,‏ ولو حفر فتلف فيه شيء إن حفر أهل المسجد أو غيرهم بإذنهم لا يضمن‏,‏ وإن كان بغير إذنهم ضمن أضرّ ذلك بأهله أو لا‏.‏

وحرّم الحنابلة حفر البئر وغرس الشّجر بالمساجد لأنّ البقعة مستحقّة للصّلاة فتعطيلها عدوان‏,‏ فإن فعل طمّت البئر وقلعت الشّجرة‏,‏ نصّ عليه‏,‏ قال‏:‏ هذه غرست بغير حقٍّ والّذي غرسها ظالم غرس فيما لا يملك‏.‏

وتحريم حفر البئر في المسجد حيث لم يكن فيه مصلحة‏,‏ فإن كان في حفره مصلحة ولم يحصل به ضيق لم يكره أحمد حفرها فيه‏,‏ والزّرع فيه مكروهٌ‏.‏

وقال ابن قدامة‏:‏ لا يجوز أن يغرس في المسجد شجرة وإن كانت النّخلة في أرض فجعلها صاحبها مسجداً والنّخلة فيها فلا بأس ويجوز أن يبيعها من الجيران‏,‏ وفي رواية‏:‏ لا تباع وتجعل للمسلمين وأهل الدّرب يأكلونها‏,‏ وقيل‏:‏ إنّ المسجد إذا احتاج إلى ثمن ثمرة الشّجرة بيعت وصرف ثمنها في عمارته‏,‏ أمّا إن قال صاحبها‏:‏ هذه وقف على المسجد فينبغي أن يباع ثمرها ويصرف إليه‏.‏

والمالكيّة لا يجيزون ذلك في المسجد وإن وقع قلع‏.‏

والشّافعيّة قالوا بكراهة غرس الشّجر والنّخل وحفر الآبار في المساجد لما فيه من التّضييق على المصلّين‏,‏ ولأنّه ليس من فعل السّلف‏,‏ والصّحيح تحريمه لما فيه من تحجير موضع الصّلاة والتّضييق وجلب النّجاسات من ذرق الطيور‏,‏ وقال الغزالي‏:‏ لا يجوز الزّرع فيه‏,‏ وإن غرس غرساً يستظل به فهلك به إنسان فلا ضمان‏.‏

وقال الرّافعي في كتاب الوقف‏:‏ ولا ينبغي أن يغرس في المسجد شجر لأنّه يمنع المصلّين‏,‏ قال في الرّوضة في باب السّجدات‏:‏ فإن غرس قلعه الإمام‏,‏ وقال القاضي حسين في تعليقه في الصّلاة‏:‏ لا يجوز الغرس في المسجد ولا الحفر فيه ‏;‏ لأنّ ذلك ممّا يشغل المصلّي‏.‏

وقال في آخر كتاب الوقف‏:‏ سئل أبو عليٍّ عبد اللّه الحنّاطي عن رجل غرس شجرةً في المسجد كيف يصنع بثمارها‏؟‏ فقال‏:‏ إن جعلها للمسجد لم يجز أكلها من غير عوض‏,‏ ويجب صرفها إلى مصالح المسجد‏,‏ ولا ينبغي أن يغرس في المساجد الأشجار لأنّها تمنع الصّلاة‏,‏ فإن غرسها مسبّلةً للأكل جاز أكلها بلا عوض وكذا إن جهلت نيّته حيث جرت العادة به‏.‏

انتفاع جار المسجد بوضع خشبة على جداره

47 - للمالكيّة قولان في أنّه هل لناظر وقف المسجد أن يعير جار المسجد موضعاً لغرز خشبة فيه أو ليس له هذا الحقّ‏؟‏ أحدهما بإعطائه هذا الحقّ‏,‏ والآخر بمنعه من ذلك وهو الرّاجح عندهم‏.‏

ويشترط الحنابلة لجواز وضع تلك الخشبة على جدار المسجد أن لا تضرّ بحائطه فيضعف عن حملها‏,‏ وأن لا يمكن التّسقيف بدون وضعها وأن لا يكون عند صاحبها غناء بوضعها على غير جدار المسجد‏,‏ وأن تكون الحاجة داعيةً إلى وضع تلك الخشبة على جداره‏,‏ فمتى كان ذلك جاز وضع تلك الخشبة على جداره‏,‏ وقيل‏:‏ يشترط للجواز أن يكون له ثلاثة حيطان ولجاره حائط واحد‏.‏

فإن كان غرزها في جدار المسجد يضرّ بحائطه فيضعفه عن حملها‏,‏ أو أمكن التّسقيف بدون وضعها عليه‏,‏ أو كان عنده غناء بوضعها على غير جداره‏,‏ أو لم تدع الحاجة إلى وضعها على جداره لم يجز وضعها عليه‏.‏

إغلاق المسجد في غير أوقات الصّلاة

48 - ذهب جمهور الفقهاء وهو قول للحنفيّة إلى أنّه لا بأس بإغلاق المساجد في غير أوقات الصّلاة‏,‏ صيانةً لها وحفظاً لما فيها من متاع‏,‏ وتحرزاً عن نقب بيوت الجيران منها‏,‏ وخوفاً من سرقة ما فيها‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى أنّه يكره تحريماً إغلاق باب المسجد لأنّه يشبه المنع من الصّلاة والمنع من الصّلاة حرام لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا ‏}‏‏.‏

تعطيل المساجد

49 - قال الزّركشي‏:‏ إذا تعطّل المسجد بتفرق النّاس عن البلد أو خرابها أو بخراب المسجد فلا يعود مملوكاً ولا يجوز بيعه بحال ولا التّصرف فيه‏,‏ كما لو أعتق عبداً ثمّ زمن لا يعود مملوكاً‏.‏

ثمّ إن خيف أن تنقضه الشّياطين‏,‏ نقض وحفظ‏,‏ وإن رأى القاضي أن يبني بنقضه مسجداً آخر‏,‏ قال القاضي وابن الصّبّاغ والمتولّي‏:‏ يجوز‏,‏ وقال المتولّي‏:‏ الأولى أن ينقل إلى أقرب الجهات إليه‏,‏ فإن نقل إلى البعيد جاز‏,‏ ولا يصرف النّقض إلى غير المسجد كالرّباطات والقناطر والآبار‏,‏ كما لا يجوز عكسه‏,‏ لأنّ الوقف لازم‏,‏ وقد دعت الضّرورة إلى تبديل المحلّ دون الجهة‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ لا يجوز نقض المسجد ولا بيعه ولا تعطيله وإن خربت المحلّة‏.‏

وإذا تعطّلت منافع المسجد بخراب أو غيره كخشب تشعّث وخيف سقوطه ولم يوجد ما يعمر به فيباع ويصرف ثمنه في مثله أو بعض مثله نصّ عليه أحمد‏,‏ قال‏:‏ إذا كان في المسجد خشبات لها قيمة جاز بيعها وصرف ثمنها عليه‏,‏ وقال يحوّل المسجد خوفاً من اللصوص‏,‏ وإذا كان موضعه قذراً‏.‏

مسْجِد إبراهيم

التّعريف

1 - مسجد إبراهيم مركّب من كلمتين‏:‏ مسجد وإبراهيم‏,‏ فالمسجد في اللغة‏:‏ بيت الصّلاة‏,‏ وموضع السجود من بدن الإنسان‏.‏

والمسجد في الاصطلاح‏:‏ الأرض الّتي جعلها المالك مسجداً وأذن بالصّلاة فيها‏.‏

قال الشّافعيّة‏:‏ وإبراهيم هو نبي اللّه إبراهيم عليه السّلام على الصّحيح‏.‏

وقيل‏:‏ إنّ إبراهيم هو أحد أمراء بني العبّاس وهو الّذي ينسب إليه باب إبراهيم بمكّة‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

مقام إبراهيم‏:‏

2 - المقام - بفتح الميم - اسم مكان من قام يقوم قوماً وقياماً‏:‏ أي انتصب‏,‏ وقال أكثر الفقهاء والمفسّرين‏:‏ إنّ مقام إبراهيم‏:‏ الحجر الّذي تعرفه النّاس اليوم‏,‏ يصلون عنده ركعتي الطّواف‏.‏

والصّلة بين مقام إبراهيم ومسجد إبراهيم أنّ كلاً منهما منسوب إلى نبيّ اللّه إبراهيم‏,‏ غير أنّ مقام إبراهيم عند الكعبة‏,‏ وتسن ركعتا الطّواف عنده‏,‏ ومسجد إبراهيم عند عرفات‏.‏

الحكم الإجمالي

يتعلّق بمسجد إبراهيم أحكام منها‏.‏

أ - الوقوف بمسجد إبراهيم

3 - قال أبو محمّد الجويني من الشّافعيّة‏:‏ إنّ مقدم مسجد إبراهيم في طرف وادي عرنة لا في عرفات‏,‏ وآخره في عرفات قال‏:‏ فمن وقف في مقدم المسجد المسمّى بمصلّى إبراهيم لا يصح وقوفه‏,‏ ومن وقف في آخره صحّ‏.‏

ب - لقطة مسجد إبراهيم‏:‏

4 - قال الزّركشي في إعلام السّاجد نقلاً عن الحاوي‏:‏ إنّ لقطة عرفة ومصلّى إبراهيم ‏"‏ أي مسجد إبراهيم ‏"‏ فيها وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ حل لقطتها قياساً على الحلّ‏,‏ والثّاني‏:‏ أنّه كالحرم لا تحل إلّا لمنشد‏,‏ لأنّه مجمع الحاجّ وينصرف القصّاد منه إلى سائر البلاد كالحرم‏.‏

وأمّا جمهور الفقهاء فقالوا‏:‏ لا فرق بين لقطة الحلّ ولقطة الحرم‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏ حرم ف / 19 ‏)‏‏.‏

ج - صلاة الظهر والعصر يوم عرفة بمسجد إبراهيم‏:‏

5 - يندب إذا قصد الحجيج عرفات للوقوف بها أن يتوجّهوا إلى مسجد إبراهيم عليه السّلام- ويسمّى الآن مسجد نمرة ويصلوا الظهر والعصر جمعاً بعد خطبتين يلقيهما الإمام‏.‏ وينظر تفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏ عرفات ف / 2 ‏)‏

المَسْجِد الأقْصَى

التّعريف

1 - المسجد الأقصى هو المسجد المعروف في مدينة القدس‏,‏ وقد بني على سفح الجبل ويسمّى بيت المقدس‏,‏ أي البيت المطهّر الّذي يتطهّر فيه من الذنوب‏.‏

وهو أولى القبلتين وثالث الحرمين الشّريفين‏,‏ ومسرى رحمة اللّه للعالمين محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم‏,‏ واحد المساجد الثّلاثة الّتي لا تشد الرّحال إلّا إليها‏,‏ والمسجد الّذي بارك اللّه حوله كما جاء في القرآن الكريم‏.‏

ويسمّى الأقصى لبعد ما بينه وبين المسجد الحرام‏,‏ وكان أبعد مسجد عن أهل مكّة في الأرض يعظّم بالزّيارة‏.‏

أسماء المسجد الأقصى

2 - للمسجد الأقصى أسماء عدّة ذكر الزّركشي منها سبعة عشر من أهمّها‏:‏

الأوّل‏:‏ مسجد إيلياء‏:‏ وقيل في معناه‏:‏ بيت اللّه‏,‏ وعن كعب الأحبار أنّه كره أن يسمّى بإيلياء‏,‏ ولكن بيت اللّه المقدّس‏,‏ وقد حكى ذلك الواسطي في فضائله‏.‏

الثّاني‏:‏ بيت المَقْدس‏:‏ بفتح الميم وإسكان القاف - أي المكان الّذي يطّهر فيه من الذنوب‏,‏ والمقدس‏:‏ المطهّر‏.‏

الثّالث‏:‏ البيت المُقَدّس‏:‏ - بضمّ الميم وفتح القاف والدّال المشدّدة - أي المطهّر‏,‏ وتطهيره إخلاؤُه من الأصنام‏,‏ وغيرها من الأسماء‏,‏ وقد أوصلها الجراعي إلى اثنين وعشرين اسماً‏,‏ في كتابه تحفة الرّاكع والسّاجد‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - المسجد النّبوي‏:‏

3 - المسجد النّبوي هو المسجد الّذي أسّسه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في المدينة المنوّرة‏,‏ وهو ثاني الحرمين الشّريفين‏,‏ وثواب الصّلاة فيه يربو على الصّلاة في غيره بألف صلاة إلّا المسجد الحرام‏,‏ والصّلة بينهما أنّ كلاً من المسجد الأقصى والمسجد النّبويّ من المساجد الثّلاثة الّتي لا تشد الرّحال إلّا إليها‏.‏

ب - المسجد الحرام‏:‏

4 - المسجد الحرام هو بيت اللّه الحرام بمكّة المكرّمة‏,‏ وهو أوّل مسجد وضع على الأرض‏,‏ كما جاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ‏}‏‏.‏

وهو أوّل الحرمين وثاني القبلتين‏,‏ وفضل الصّلاة فيه بمائة ألف صلاة عمّا سواه‏,‏ والصّلة أنّ كلاً من المسجد الأقصى والمسجد الحرام من المساجد الثّلاثة الّتي لا تشد الرّحال إلّا إليها‏.‏

فضائل المسجد الأقصى ومكانته في الإسلام وخصائصه

للمسجد الأقصى فضائل أهمها‏:‏

أ - أنّه القبلة الأولى للمسلمين‏:‏

5 - من الفضائل الّتي أختصّ بها المسجد الأقصى‏,‏ أن جعله اللّه تعالى أولى القبلتين‏,‏ فإليه كان المسلمون يتوجّهون في صلاتهم قبل أن تحوّل القبلة إلى الكعبة المشرّفة‏.‏

وفي ذلك دلالة على أنّ هذا البيت شرّفه اللّه وكرّمه‏,‏ فوجّه أنظار المسلمين إليه فترةً من الزّمن‏.‏

ب - الإسراء إليه والمعراج منه‏:‏

6 - إلى المسجد الأقصى كان إسراء النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قبل الهجرة‏,‏ ونزل في ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ‏}‏‏.‏

وهذه الآية هي المعظّمة لقدره بإسراء سيّدنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إليه قبل عروجه إلى السّماء‏.‏

ودخل النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم ومعه جبريل بيت المقدس فصلّى فيه ركعتين‏.‏

ج - شد الرّحال إليه‏:‏

7 - جعل الإسلام هذا المسجد أحد ثلاثة مساجد تشد إليها الرّحال‏,‏ فقال صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ « لا تشد الرّحال إلّا إلى ثلاثة مساجد‏,‏ المسجد الحرام ومسجدي هذا‏,‏ والمسجد الأقصى »‏.‏

د - فضل الصّلاة فيه‏:‏

8 - ومن خصائص المسجد الأقصى وفضله‏,‏ مضاعفة الصّلاة فيه‏,‏ وقد اختلفت الأحاديث في مقدارها‏,‏ قال الجراعي‏:‏ ورد أنّ الصّلاة فيه بخمسمائة‏,‏ وقال الشّيخ تقيّ الدّين ابن تيميّة‏:‏ إنّه الصّواب‏.‏

هـ - مباركة الأرض حوله‏:‏

9 - أخبر اللّه تعالى عن المسجد الأقصى أنّه بارك حوله في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ‏}‏‏,‏ وفي الآية تأويلان‏:‏ أحدهما أنّه مبارك بمن دفن حوله من الأنبياء المصطفين الأخيار‏,‏ والثّاني‏:‏ بكثرة الثّمار ومجاري الأنهار‏.‏

و - كونه ثاني مسجد في الأرض‏:‏

10 - أوّل مسجد وضع على الأرض هو المسجد الحرام ثمّ المسجد الأقصى‏.‏

فعن « أبي ذر رضي اللّه عنه قال سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن أوّل مسجد وضع في الأرض قال‏:‏ المسجد الحرام قلت ثمّ أي قال‏:‏ المسجد الأقصى قلت وكم بينهما قال أربعون عاماً ثمّ الأرض لك مسجداً فحيثما أدركتك الصّلاة فصلّ »‏,‏ وقال البخاري في بعض طرقه‏:‏ « أينما أدركتك الصّلاة فصلّ فيه فإنّ الفضل فيه »‏.‏

وقد أشكل هذا الحديث على بعض العلماء كابن الجوزيّ فقال‏:‏ إنّه معلوم أنّ سليمان بن داود هو الّذي بنى الأقصى كما رواه النّسائي بإسناد صحيح من حديث عبد اللّه بن عمرو يرفعه‏:‏ « أنّ سليمان بن داود لمّا بنى بيت المقدس سأل اللّه ثلاثاً سأل اللّه عزّ وجلّ حكماً يصادف حكمه فأوتيه وسأل اللّه عزّ وجلّ ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه وسأل اللّه عزّ وجلّ حين فرغ من بناء المسجد الأقصى ألّا يأتيه أحد لا ينهزه يحرّكه إلّا الصّلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه »‏.‏

وسليمان بعد إبراهيم كما قال أهل التّاريخ بأكثر من ألف عام‏,‏ وأجاب الزّركشي‏:‏ بأنّ سليمان عليه السّلام إنّما كان له من المسجد الأقصى تجديده لا تأسيسه‏,‏ والّذي أسّسه هو يعقوب بن إسحاق بعد بناء إبراهيم الكعبة بهذا القدر‏.‏

أحكامه

11 - تتعلّق بالمسجد الأقصى أحكام سبق ذكر بعضها كمضاعفة أجر الصّلاة فيه‏,‏ واستحباب شدّ الرّحال إليه للحديث الشّريف كما تقدّم‏.‏

ومنها ما يأتي‏:‏

الأوّل‏:‏ استحباب ختم القرآن فيه وعن أبي مجلزٍ قال كانوا يستحبون لمن أتى المساجد الثّلاثة أن يختم بها القرآن قبل أن يخرج‏,‏ المسجد الحرام‏,‏ ومسجد النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم‏,‏ ومسجد بيت المقدس‏.‏

كما روي أنّ سفيان الثّوريّ كان يختم به القرآن‏.‏

الثّاني‏:‏ استحباب الإحرام بالحجّ والعمرة منه ذكره الزّركشي وقال‏:‏ ففي سنن أبي داود وغيره من حديث أمّ سلمة قالت‏:‏ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ « من أهلّ بحجّة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر » أو « وجبت له الجنّة »‏.‏

وأحرم جماعة من السّلف منه‏,‏ كابن عمر ومعاذ وكعب الأحبار وغيرهم‏.‏

الثّالث‏:‏ حكي عن بعض السّلف أنّ السّيّئات تضاعف في المسجد الأقصى روي ذلك عن كعب الأحبار‏,‏ وذكر أبو بكر الواسطي عن نافع قال‏:‏ قال لي ابن عمر‏:‏ أخرج بنا من هذا المسجد فإنّ السّيّئات تضاعف فيه كما تضاعف الحسنات‏.‏

وذكر الزّركشي عن كعب الأحبار أنّه كان يأتي من حمص للصّلاة فيه فإذا صار منه قدر ميل اشتغل بالذّكر والتّلاوة والعبادة حتّى يخرج عنه بقدر ميل أيضاً ويقول‏:‏ السّيّئات تضاعف فيه‏,‏ ‏"‏ أي تزداد قبحاً وفحشاً لأنّ المعاصي في زمان أو مكان شريف أشد جرأةً وأقل خوفاً من اللّه تعالى ‏"‏‏.‏

الرّابع‏:‏ أنّه يحذّر من اليمين الفاجرة فيه وكذلك في المسجدين فإنّ عقوبتها عاجلة‏.‏ الخامس‏:‏ يكره استقبال بيت المقدس واستدباره بالبول والغائط ولا يحرم قاله الشّيخ محيي الدّين في الرّوضة من زوائده تبعاً لغيره‏,‏ ولم يتعرّض له الشّافعي وأكثر الأصحاب‏.‏ والتّفصيل في مصطلح ‏(‏ قضاء الحاجة ف / 5 ‏)‏‏.‏

السّادس‏:‏ ذهب الفقهاء إلى أنّ إقامة صلاة العيد في المصلّى أولى منها في المسجد إلّا في مسجد مكّة‏,‏ قال الرّافعي‏:‏ وألحق الصّيدلاني به مسجد بيت المقدس‏.‏

السّابع‏:‏ استحباب الصّيام فيه فقد روي‏:‏ « صوم يوم في بيت المقدس براءة من النّار »‏.‏ الثّامن‏:‏ قال الزّركشي‏,‏ قال الدّارمي‏:‏ لا يجوز الاجتهاد بمحراب بيت المقدس يمنةً ولا يسرةً إلحاقاً له بمسجد المدينة‏.‏